استئناف ابتدائي للانتقال إلى غرض التّنويه بدين الإسلام بمناسبة قوله:{ ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا}[ سورة النحل: 119] المقصودِ به أنّهم كانوا في الجاهلية ثم اتّبعوا الإسلام ،فبعد أن بشرهم بأنه غفر لهم ما عملوه من قبل زادهم فضلاً ببيان فضل الدين الذي اتّبعوه .
وجُعل الثناء على إبراهيم عليه السلام مقدّمة لذلك لِبيان أن فضل الإسلام فضْل زائد على جميع الأديان بأن مبدأه برسول ومنتهاه برسول .وهذا فضل لم يحظ به دين آخر .
فالمقصود بعد هذا التمهيد وهاته المقدّمة هو الإفضاء إلى قوله:{ ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً}[ سورة النحل: 123] ،وقد قال تعالى في الآية الأخرى:{ ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل}[ سورة الحج: 78] .
والأصل الأصيل الذي تفرّع عنه وعن فروعه هذا الانتقالُ ما ذكر في الآية قبلها من تحريم أهل الجاهلية على أنفسهم كثيراً مما أنعم الله به على الناس .
ونظّرهم باليهود إذ حرّم الله عليهم أشياء ،تشديداً عليهم ،فجاء بهذا الانتقال لإفادة أن كلا الفريقين قد حادوا عن الحنيفية التي يزعمون أنهم متابعوها ،وأن الحنيفية هي ما جاء به الإسلام من إباحة ما في الأرض جميعاً من الطيّبات ،إلا ما بيّن الله تحريمه في آية{ قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً}[ سورة الأنعام: 145] الآية .
وقد وُصف إبراهيم عليه السلام بأنه كان أمّة .والأمّة: الطائفة العظيمة من الناس التي تجمعها جهة جامعة .وتقدم في قوله تعالى{ كان الناس أمّة واحدة} في سورة البقرة ( 213 ) .ووصفُ إبراهيم عليه السلام بذلك وصفٌ بديع جامع لمعنيين:
أحدهما: أنه كان في الفضل والفتوة والكمال بمنزلة أمّة كاملة .وهذا كقولهم: أنت الرجل كل الرجل ،وقول البحْتري:
ولم أر أمثال الرجال تفاوتاً *** لدى الفضل حتى عُدّ ألفٌ بواحد
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال"مَعاذٌ أمّة قانتٌ لله".والثاني: أنه كان أمّة وحده في الدين لأنه لم يكن في وقت بعثته ،موحّدٌ لله غيره .فهو الذي أحيا الله به التوحيد ،وبثّه في الأمم والأقطار ،وبنَى له معلماً عظيماً ،وهو الكعبة ،ودعا الناس إلى حجّه لإشاعة ذكره بين الأمم ،ولم يزل باقياً على العصور .وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم في خَطر بن مالك الكاهن:"وأنه يبعث يوم القيامة أمّةً وحدَه"رواه السهيلي في « الروض الأنف » .ورأيت رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذه المقالة في زيد بن عَمرو بن نُفيل .
والقانت: المطيع .وقد تقدم في قوله تعالى{ وقوموا لله قانتين} في سورة البقرة ( 238 ) .
واللام لام التقوية لأن العامل فرع في العمل .
والحنيف: المجانب للباطل .وقد تقدم عند قوله:{ قل بل ملّة إبراهيم حنيفاً} في سورة البقرة ( 135 ) ،والأسماء الثلاثة أخبار{ كان} وهي فضائل .
{ ولم يك من المشركين} اعتراض لإبطال مزاعم المشركين أن ما هم عليه هو دين إبراهيم عليه السلام .وقد صوّروا إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يستقسمان بالأزلام ووضعوا الصورة في جوف الكعبة ،كما جاء في حديث غزوة الفتح ،فليس قوله:{ ولم يك من المشركين} مسوقاً مساق الثناء على إبراهيم ولكنه تنزيه له عمّا اختلقه عليه المبطلون .فوزانه وزان قوله:{ وما صاحبكم بمجنون}[ سورة التكوير: 22] .وهو كالتأكيد لوصف الحنيف بنفي ضدّه مثل{ وأضلّ فرعون قومه وما هدى}[ سورة طه: 79] .
ونُفي كونه من المشركين بحرف لم} لأن{ لم} تقلب زمن الفعل المضارع إلى الماضي ،فتفيد انتفاء مادة الفعل في الزمن الماضي ،وتفيد تجدّد ذلك المنفي الذي هو من خصائص الفعل المضارع فيحصل معنيان: انتفاءُ مدلول الفعل بمادته ،وتجدّد الانتفاء بصيغته ،فيفيد أن إبراهيم عليه السلام لم يتلبّس بالإشراك قط ،فإن إبراهيم عليه السلام لم يشرك بالله منذ صار مميّزاً ،وأنه لا يتلبّس بالإشراك أبداً .