و{ إذا قيل لهم} عطف على جملة{ قلوبهم منكرة}[ سورة النحل: 22] ،لأن مضمون هذه من أحوالهم المتقدم بعضُها ،فإنه ذُكر استكبارهم وإنكارهم الوحدانية ،وأتبع بمعاذيرهم الباطلة لإنكار نبوءة محمد وبصدّهم الناس عن اتّباع الإسلام .والتقدير: قلوبهم منكرة ومستكبرة فلا يعترفون بالنبوءة ولا يخلّون بينك وبين من يتطلب الهدى ،مضلّون للناس صادّونهم عن الإسلام .
وذكر فعل القول يقتضي صدوره عن قائل يسألهم عن أمر حدث بينهم وليس على سبيل الفرض ،وأنهم يجيبون بما ذكر مكراً بالدين وتظاهراً بمظهر الناصحين للمسترشدين المستنصحين بقرينة قوله تعالى:{ ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم}[ سورة النحل: 25] .
و{ إذا} ظرف مضمّن معنى الشّرط .وهذا الشّرط يؤذن بتكرّر هذين القولين .وقد ذكر المفسرون أن قريشاً لما أهمّهم أمر النبي صلى الله عليه وسلم ورأوا تأثير القرآن في نفوس الناس ،وأخذ أتباع الإسلام يكثرون ،وصار الواردون إلى مكّة في موسم الحجّ وغيره يسألون الناس عن هذا القرآن ،و ماذا يدعو إليه ،دبّر لهم الوليد بن المغيرة معاذير واختلاقاً يختلقونه ليقنعوا السّائلين به ،فندب منهم ستة عشر رجلاً بعثهم أيام الموسم يقعدون في عقبات مكّة وطرقها التي يرد منها الناس ،يقولون لمن سألهم: لا تغترّوا بهذا الذي يدّعي أنه نبيّ فإنه مجنون أو ساحر أو شاعر أو كاهن ،وأن الكلام الذي يقوله أساطير من أساطير الأولين اكتتبها .وقد تقدم ذلك في آخر سورة الحِجر .وكان النضر بن الحارث يقول: أنا أقرأ عليكم ما هو أجمل من حديث محمد أحاديثَ رُسْتُمَ وإِسْفَنْدِيَارَ .وقد تقدّم ذكره عند قوله تعالى:{ ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله} في سورة الأنعام ( 93 ) .
ومساءلة العرب عن بعث النبي كثيرة واقعة .وأصرحها ما رواه البخاري عن أبي ذرّ أنه قال: كنت رجلاً من غفار فبلَغَنَا أْن رجلاً قد خرج بمكّة يزعم أنه نبيء ،فقلت لأخِي أُنَيْسٍ: انطلقْ إلى هذا الرجل كلّمْه وائتني بخبره ،فانطَلَق فلقيَه ثم رجع ،فقلتُ: ما عندك ؟فقال: والله لقد رأيتُ رجلاً يأمر بالخير وينهى عن الشرّ .فقلتُ: لم تشفني من الخبر ،فأخذتُ جراباً وعصاً ثم أقبلت إلى مكّة فجعلت لا أعرفه وأكره أن أسأل عنه ،وأشربُ من ماء زمزم وأكون في المسجد ...إلى آخر الحديث .
وسؤال السّائلين لطلب الخبر عن المنزل من الله يدلّ على أن سؤالهم سؤال مسترشد عن دعوى بلغتهم وشاع خبرها في بلاد العرب ،وأنهم سألوا عن حسن طويّة ،ويصُوغون السؤال عن الخبر كما بلغتهم دعوتُه .
وأما الجواب فهو جوابٌ بليغ تضمّن بيان نوع هذا الكلام ،وإبطال أن يكون منزلاً من عند الله لأن أساطير الأولين معروفة والمنزّل من عند الله شأنه أن يكون غير معروف من قبل .
و{ ماذا} كلمة مركبة من ( ما ) الاستفهامية واسم الإشارة ،ويقع بعدها فعل هو صلة لموصول محذوف ناب عنه اسم الإشارة .والمعنى: ما هذا الذي أنزل .
و ( ما ) يستفهم بها عن بيان الجنس ونحوه .وموضعها أنها خبر مقدّم .وموضع اسم الإشارة الابتداءُ .والتقدير: هذا الذي أنزل ربكم ما هو .وقد تسامح النحويون فقالوا: إن ( ذا ) من قولهم ( ماذا ) صارت اسم موصول .وتقدم عند قوله تعالى:{ يسألونك ماذا ينفقون} في سورة البقرة ( 215 ) .
{ وأساطير الأولين} خبر مبتدأ محذوف دلّ عليه ما في السؤال .والتقدير: هو أساطير الأوّلين ،أي المسؤول عنه أساطير الأوّلين .
ويعلم من ذلك أنه ليس منزّلاً من ربهم لأن أساطير الأوّلين لا تكون منزّلة من الله كما قلناه آنفاً .ولذلك لم يقع{ أساطير الأولين} منصوباً لأنه لو نصب لاقتضى التقدير: أنزل أساطير الأولين ،وهو كلام متناقض .لأن أساطير الأولين السابقة لا تكون الذي أنزل الله الآن .
والأساطير: جمع أسطار الذي هو جمع سطر .فأساطير جمع الجمع .وقال المبرّد: جمع أسطورة بضم الهمزة كأرجوحة .وهي مؤنثة باعتبار أنها قصة مكتوبة .وهذا الذي ذكره المبرّد أولى لأنها أساطير في الأكثر يعني بها القصص لا كل كتاب مسطور .وقد تقدّم عند قوله تعالى:{ يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأوّلين} في سورة الأنعام ( 25 ) .