ولأنهم يستكبرون عن الحق لا يدركونه ، ولا يريدونه ؛ ولذا قال الله تعالى فيهم:
{ وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين ( 24 )} .
أي أنهم لا يرون في القرآن إلا قصصا ، ولا في قصصه إلا أنه أسطورة من أساطير الأولين ، وذلك لاستكبارهم عن أن يفتحوا صدورهم وعقولهم لإدراك ما اشتمل عليه من أحكام ، وما فيه أن أساليب البيان التي يعجزون عن أن يأتوا بمثلها ، إن استكبارهم يمنعهم من الاتجاه إلى الحقائق ليدركوها ، وإذا أدركوها خضعوا لها .
والأساطير جمع أسطورة كما قال المبرد ، والأسطورة هي الأحاديث التي لا يربطها فكر ، ولا أصل لها وتقال للتسلية ، أو هو الأخبار التي تجئ على ألسنة الحيوان ، وقالوا في السيرة:إن النضر بن الحارث كان في فارس ، فعلم ما في كتاب كليلة ودمنة ، فقال:كلام محمد صلى الله عليه وسلم هو كهذه أساطير الأولين:{ وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ( 5 )} [ الفرقان] .
وقوله تعالى:{ وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم} فيه ( قيل ) مبني للمجهول فمن هو الفاعل الذي جهل وحذف ؟ يصح أن يكون القائل النبي صلى الله عليه وسلم أو من معه ، وكأنه يتحداهم ، ويدعوهم إلى التأمل ، وإدراك معانيه ووجوه البيان الذي هو فوق البشر ، ويوجه أنظارهم ، ولكن قلوبهم معرضة مستكبرة ، والاستكبار كما ذكرنا يسد مسالك الإدراك ، فيكون العقل غافلا عن إدراك الحق ، ولذا يجيبون{ أساطير الأولين} ، أي أحاديثهم التي لا أصل لها ولا واقعة يحققه وكأنهم نظروا إلى القصص الحكيم في القرآن ، ولم يصفوه بوصفه ، بل قالوا ما قالوا منصرفين عن الحق ، غير مدركين لموضع العبر فيه ، ولم ينظروا إلى ما فيه من دعوة إلى التوحيد ، وبطلان الشرك ، وما فيه من أحكام شرعية تصلحهم في دنياهم وآخرتهم .
هذا على أن الفاعل المحذوف هو النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن معه ، ويكون قوله تعالى{ ماذا أنزل ربكم} المراد به القرآن الحكيم ، والاستفهام هنا على حقيقته ليحملهم على التفكير والتدبر .
ويصح أن يكون من الكفار بعضهم لبعض ، وكأنهم يتساءلون عن حقيقة ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم في نظرهم ، وما يمكن أن يردوا به على المصدقين ، أو ما يمكن أن يشككوا فيه المؤمنين به ، ويصدوا به الذين لم يؤمنوا عن أن يدخلوا فيه ويكون تعبيرهم{ ماذا أنزل ربكم} من قبيل التهكم بالقرآن ، ومن نزل عليه ، إذ هم في ظاهر حالهم لا يؤمون بالقرآن ولا يصدقون أنه نزل من لله تعالى على قلي محمد صلى الله عليه وسلم .
ويصح أن نقول إن قائل هذا القول ليس من المشركين ، إنما هو من الوافدين إلى مكة في موسم الحج ، والرد من المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة ليصدوا الناس عن سبيل الله تعالى ، ويضلوا الذين يدعونهم النبي صلى الله عليه وسلم عندما أخذ يعرض نفسه على القبائل الوافدة إلى الحج ، وقد دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى القرآن الذي أنزله رب العالمين ، لقد سأل أولئك البادون الذين جاءوا من خارج مكة عن القرآن{ ماذا أنزل ربكم} فضللوا وقالوا أساطير الأولين وبذلك صدوهم عن الإيمان الذي كان يمكن أن يدخل قلوبهم لولا هذه المبادرة المضلة .
وإني أميل إلى الأخير وأرى الفاعل المحذوف يحتملها جميعا ، وربما تكرر السؤال ، وتكرر الجواب ، وهنا إشارة إلى أن القرآن أنزل من الله وعبر بالرب ، للإشارة إلى أنه أنزل من ربهم الذي أنشأهم ورباهم ، ويعلم ما فيه صلاح أمورهم في دنياهم وعاقبة أمرهم .