ابتدئت السورة بتعظيم الله وثنائه على أن أنزل الفرقان على رسوله ،وأعقب ذلك بما تلقى به المشركون هذه المزية من الجحود والإنكار الناشىء عن تمسكهم بما اتخذوه من آلهة من صفاتهم ما ينافي الإلهية ،ثم طعنوا في القرآن والذي جاء به بما هو كفران للنعمة ومن جاء بها .
فلما أريد الإعراض عن باطلهم والإقبال على خطاب الرسول بتثبيته وتثبيت المؤمنين أعيد اللفظ الذي ابتدئت به السورة على طريقة وصل الكلام بقوله:{ تبارك الذي إن شاء جعل لك خيراً من ذلك} .
وهذه الجملة استئناف واقع موقع الجواب عن قولهم{ أو تكون له جنة}[ الفرقان: 8] الخ ،أي إن شاء جعل لك خيراً من الذي اقترحوه ،أي أفضل منه ،أي إن شاء عجله لك في الدنيا ،فالإشارة إلى المذكور من قولهم ،فيجوز أن يكون المراد بالجنات والقصور جناتتٍ في الدنيا وقصوراً فيها ،أي خيراً من الذي اقترحوه دليلاً على صدقك في زعمهم بأن تكون عدة جنات وفيها قصور .وبهذا فسر جمهور المفسرين .وعلى هذا التأويل تكون ( إن ) الشرطية واقعة موقع ( لو ) ،أي أنه لم يشأ ولو شاءه لفعله ولكن الحكمة اقتضت عدم البسط للرسول في هذه الدنيا ولكن المشركين لا يدركون المطالب العالية .
وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون المراد بالجنات والقصور ليست التي في الدنيا ،أي هي جنات الخلد وقصور الجنة فيكون وعداً من الله لرسوله .
واقتران هذا الوعد بشرط المشيئة جار على ما تقتضيه العظمة الإلهية وإلا فسياق الوعد يقتضي الجزم بحصوله ،فالله شاء ذلك لا محالة ،بأن يقال: تبارك الذي جعل لك خيراً من ذلك .فموقع{ إن شاء} اعتراض .
وأصل المعنى: تبارك الذي جعل لك خيراً من ذلك جنات إلى آخره .ويساعد هذا قراءة ابن كثير وابن عامر وأبي بكر عن عاصم{ ويجعلُ لك قصوراً} برفع{ يجعلُ} على الاستئناف دون إعمال حرف الشرط ،وقراءة الأكثر بالجزم عطفاً على فعل الشرط وفعل الشرط محقق الحصول بالقرينة ،وهذا المحمل أشد تبكيتاً للمشركين وقطعاً لمجادلتهم ،وقرينة ذلك قوله بعده:{ بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا}[ الفرقان: 11] ،وهو ضد ومقابل لما أعده لرسوله والمؤمنين .
والقصور: المباني العظيمة الواسعة على وجه الأرض وتقدم في قوله:{ تتخذون من سهولها قصوراً} في سورة الأعراف ( 74 ) ،وقوله:{ وقصر مشيد} في سورة الحج ( 45 ) .