روي في الدر المنثور حول هذه الآيات ،ما من شأنه أن يوضح لنا بعضاً من الصورة التي توحي بها مفرداتها .
جاء في الدر المنثورللسيوطي: «أخرج ابن اسحاق وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس ،أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب ،والنضر بن الحارث ،وأبا البختري ،والأسود بن المطّلب ،وزمعة بن الأسود ،والوليد بن المغيرة ،وأبا جهل بن هشام ،وعبد الله بن أمية ،وأمية بن خلف ،والعاصي بن وائل ،ونبيه بن الحجاج ،اجتمعوا ،فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلّموه وخاصموه حتى تعذروا منه ،فبعثوا إليه أنّ أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك .
قال: فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالوا له: يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر منك ،فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تريد به مالاً جمعنا لك من أموالنا ،وإن كنت تطلب الشرف فنحن نسوِّدك ،وإن كنت تريد ملكاً ملّكناك .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ما لي مما تقولون ،ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ،ولا الشرف فيكم ،ولا الملك عليكم ،ولكن الله بعثني إليكم رسولاً وأنزل عليَّ كتاباً ،وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً ،فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ،فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ،وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم .قالوا: يا محمد ،فإن كنت غير قابل منا شيئاً ممّا عرضنا عليك ...فسل لنفسك ،وسل ربك أن يبعث معك ملكاً يصدّقك بما تقول ويراجعنا عنك ،وسله أن يجعل لك جناناً وقصوراً من ذهب وفضة تغنيك عما تبتغي ،فإنك تقوم بالأسواق ،وتلتمس المعاش كما نلتمسه ،حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولاً ،كما تزعم ،فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ما أنا بفاعل ،ما أنا بالذي يسأل ربه هذا ،وما بعثت إليكم بهذا ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً .
فأنزل الله في قولهم ذلك:{وَقَالُواْ مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} ،إلى قوله:{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} ،أي جعلت بعضكم لبعض بلاءً لتصبروا ،ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسولي فلا تخالفوه لفعلت »[ 1] .
كيف يثير هؤلاء اقتراحاتهم أمام دعوة النبي ،وكيف يطلقون التحديات في مواجهتها ،فهل هم جادّون في ذلك ،أو أنهم يتحدثون بطريقةٍ غير مسؤولة من أجل إثارة الأجواء التي تبعد الساحة عن التفكير في القضايا الفكرية العقيدية التي دعا إليها النبيّ ،كما يفعل الكثيرون الذين لا يريدون للناس أن يستغرقوا في الدعوة التي يقدّمها المفكرون والمصلحون إليهم ليفكروا فيها وفي مضمونها ليقتنعوا بها ،أو ليدخلوا معهم في حوار حولها ليكون ذلك سبيلاً لإِدخالها إلى مناطق التفكير الجادّ لديهم ،فيبادر أولئك المعارضون لطرح أمور هامشية بعيدة عن المواقع الحقيقية للدعوة ،بالتأكيد على شخصية الداعية ،أو بإثارة الشكوك حوله أو حول الدعوة ،ليثور الجدل في ذلك بدلاً من أن يتحرك في القضايا الأصليّة ؟!
كيف يطلب هؤلاء منه أن يقوم بتلك الأعمال الخارقة التي لا يستطيع أيّ بشرٍ بقدرته العادية أن يحققها ،وهل كانت دعوى النبوّة تعني القيام بمثل ذلك أو تختزن في مضمونها ادّعاء القدرات الغيبيّة أو العمق الإِلهيّ الذي يمكنه من تحقيق ذلك ؟لقد كان النبيّ يعلن دائماً أنه بشر يحمل الرسالة ،ما يعني اقتصار العلاقة الإِلهية المميزة بشخصيته ،التي يختلف بها عن بقية الناس ،على الوحي الذي ينزله الله عليه ليبلغه للناس كرسالةٍ إِلهيةٍ ،بعيداً عن كل شيء آخر ،لأن ذلك هو دور النبي في الحياة ،فليس دوره أن يغيّر صورة العالم في صفته التكوينية ،بل كل دوره أن يغيّره في صفته الفكرية والعملية في حركة الحياة والإنسان .حتى المعجزة ،ليست غايةً في الرسالة ،بل هي وسيلةٌ لمواجهة التحدي الكبير حولها ،ولم تكن بقدرة النبيّ بل كانت بقدرة الله .
{تَبَارَكَ الَّذِي إِن شاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلِكَ} الذي اقترحوه عليك من الكنز والجنة أو ما شابه ذلك ،{جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً} فإن الله الذي خلق الكون كله وخلق الإنسان فيه ،لا يعجزه شيء من ذلك ،ولكن ،لماذا يجعل لك ذلك بطريقةٍ غير عادية ،من دون حاجةٍ بك إلى ذلك ،لا من جهة الدور ،ولا من جهة الذات ؟هل يجعل ذلك لأنهم اقترحوه عليك ،وهل يمكن أن يقف النبي أمام الناس ليكون كل عمله أن يواجه في كل يوم اقتراحات جديدة في تغيير الأوضاع الكونية ،ليرضي هذا أو ذاك في أساليب لا توحي بالجدّية في الطرح ،بل توحي باللعب ؟!
وقد نستوحي من هذا الرد الإِلهي على اقتراحاتهم التعجيزية للنبي أن المسألة المطروحة في ما قد يشاء الله تحقيقه للنبي( ص ) هي الجنات في الدنيا لا في الآخرة ،خلافاً لما ذكره البعض ،وذلك من خلال طبيعة الجو الذي توحي به الآية .