انتصبت الأسماء الأربعة بفعل محذوف دل عليه{ تبرنا} .وفي تقديمها تشويق إلى معرفة ما سيخبر به عنها .ويجوز أن تكون هذه الأسماء منصوبة بالعطف على ضمير النصب من قوله:{ فدمرناهم تدميراً}[ الفرقان: 36] .
وتنوين{ عاداً وثموداً} مع أن المراد الامتان .فأما تنوين{ عاداً} فهو وجه وجيه لأنه اسم عري عن علامة التأنيث وغيرُ زائد على ثلاثة أحرف فحقه الصرف .وأما صَرْف{ ثموداً} في قراءة الجمهور فعلى اعتبار اسم الأب ،والأظهر عندي أن تنوينه للمزاوجة مع{ عَاداً} كما قال تعالى:{ سَلاَسِلاً وأَغْلاَلاً وسعيراً}[ الإنسان: 4] .
وقرأه حمزة وحفص ويعقوب بغير تنوين على ما يقتضيه ظاهر اسم الأمة من التأنيث المعنوي .وتقدم ذكر عاد في سورة الأعراف .
وأما{ أصحاب الرسّ} فقد اختلف المفسرون في تعيينهم واتفقوا على أن الرسّ بئر عظيمة أو حفير كبير .ولما كان اسماً لنوع من أماكن الأرض أطلقه العرب على أماكن كثيرة في بلاد العرب .
قال زهير:
بكَرْنَ بُكُوراً واستحرْنَ بسَحرة *** فهنّ ووادِي الرسّ كاليد للفم
وسمّوا بالرّسّ ما عرفوه من بلاد فارس ،وإضافة{ أصحاب} إلى{ الرس} إما لأنهم أصابهم الخسف في رسّ ،وإما لأنهم نازلون على رسّ ،وإما لأنهم احتفروا رسّاً ،كما سمي أصحاب الأخدود الذين خدّوه وأضرموه .والأكثر على أنه من بلاد اليمامة ويسمى « فَلَجا »{[293]} .
واختلف في المعنيّ من{ أصحاب الرس} في هذه الآية فقيل هم قوم من بقايا ثمود .وقال السهيلي: هم قوم كانوا في عَدن أُرسل إليهم حنظلة بن صفوان رسولاً .وكانت العنقاء وهي طائر أعظم ما يكون من الطير ( سميت العنقاء لطول عنقها ) وكانت تسكن في جبل يقال له « فتح »{[294]} ، وكانت تنقضّ على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد فدعا عليها حنظلة فأهلكها الله بالصواعق .وقد عبدوا الأصنام وقتلوا نبيئهم فأهلكهم الله .قال وهب بن منبه: خسف بهم وبديارهم .وقيل: هم قوم شعيب .وقيل: قوم كانوا مع قوم شعيب ،وقال مقاتل والسدّي: الرسّ بئر بأنطاكية ،وأصحاب الرسّ أهل أنطاكية بُعث إليهم حبيب النجّار فقتلوه ورسُّوه في بئر وهو المذكور في سورة يس ( 20 ){ وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين} الآيات .وقيل: الرس وادٍ في أذربيجان في أرَّان يخرج من قاليقَلا ويصب في بحيرة جُرجان ولا أحسب أنه المراد في هذه الآية .ولعله من تشابه الأسماء يقال: كانت عليه ألف مدينة هلكت بالخسف ،وقيل غير ذلك مما هو أبعد .
والقرون: الأمم فإن القرن يطلق على الأمة ،وقد تقدم عند قوله تعالى:{ ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن} في أول الأنعام ( 6 ) .وفي الحديث: خير القرون قرني ثم الذين يلونهم الحديث .
والإشارة في قوله:{ بين ذلك} إلى المذكور من الأمم .
ومعنى{ بين ذلك} أن أُمَماً تخللت تلك الأقوام ابتداءً من قوم نوح .
وفي هذه الآية إيذان بطولِ مُدَد هذه القرون وكثرتها .