{وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَالِكَ كَثِيراً} .
الأظهر عندي أن قوله:{وَعَاداً وَثَمُودَاْ} معطوف على قوله:{وَقَوْمَ نُوحٍ} الآية ،وأن قوم نوح مفعول به لأغرقنا محذوفة دلّ عليها قوله بعده:{أغرقناهم وجعلناهم للناس آية} [ الفرقان: 37] ،على حدّ قوله في «الخلاصة »:
فالسابق انصبه بفعل أضمرا*** حتمًا موافق لما قد ذكرا
أي: أهلكنا قوم نوح بالغرق ،وأهلكنا عادًا وثمودًا وأصحاب الرس ،وقرونًا بين ذلك كثيرًا ،أي: وأهلكنا قرونًا كثيرة بين ذلك المذكور من قوم نوح ،وعاد وثمود .
والأظهر أن القرون الكثير المذكور بعد قوم نوح ،وعاد ،وثمود ،وقبل أصحاب الرس وقد دلّت آية من سورة «إبراهيم » على أن بعد عاد ،وثمود ،خلقًا كفروا وكذبوا الرسل ،وأنهم لا يعلمهم إلا اللَّه جلَّ وعلا .
وتصريحه بأنهم بعد عاد وثمود يوضح ما ذكرنا ،وذلك في قوله تعالى:{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُاْ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ في أفواههم وقالوا إنّا كفرنا بما أُرسلتم به وإنّا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب} [ إبراهيم: 9] .
وقد قدّمنا كلام أهل العلم في معنى قوله:{فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ} ،والإشارة في قوله:{بَيْنَ ذالِكَ} ،راجعة إلى عاد وثمود وأصحاب الرس ،أي: بين ذلك المذكور ورجوع الإشارة ،أو الضمير بالإفراد مع رجوعهما إلى متعدّد باعتبار المذكور أسلوب عربيّ معروف ،ومنه في الإشارة قوله تعالى:{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذالِكَ} [ البقرة: 68] ،أي: ذلك المذكور من الفارض والبكر ،وقوله تعالى:{وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [ الفرقان: 67] ،أي: بين ذلك المذكور من الإسراف والقتر ،وقول عبد اللَّه بن الزبعري السهمي:
إن للخير وللشرّ مدى ***وكلا ذلك وجه وقبل
أي: وكلا ذلك المذكور من الخير والشر ،ومنه في الضمير قول رؤبة:
فيها خطوط من سواد وبلق ***كأنه في الجلد توليع البهق
أي: كأنه ،أي: ما ذكر من خطوط السواد والبلق ،وقد قدّمنا هذا البيت .
أمّا عاد وثمود فقد جاءت قصّة كل منهما مفصّلة في آيات متعدّدة .وأمّا أصحاب الرس فلم يأت في القرآن تفصيل قصّتهم ولا اسم نبيّهم ،وللمفسرين فيهم أقوال كثيرة تركناها لأنها لا دليل على شيء منها .
والرس في لغة العرب: البئر التي ليست بمطوية ،وقال الجوهري في «صحاحه »: إنها البئر المطوية بالحجارة ،ومن إطلاقها على البئر قول الشاعر:
وهم سائرون إلى أرضهم ***فيا ليتهم يحفرون الرساسا
وقول النابغة الجعدي:
سبقت إلى فرط ناهل ***تنابلة يحفرون الرساسا
والرساس في البيتين جمع رس ،وهي البئر ،والرس واد في قول زهير في معلّقته: بكرن بكورًا واستحرن بسحرة*** فهن لوادي الرس كاليد للفم
وقوله في هذه الآية:{وَقُرُوناً بَيْنَ ذالِكَ كَثِيراً} ،جمع قرن ،وهو هنا الجيل من الناس الذين اقترنوا في الوجود في زمان من الأزمنة .