الأظهر أن يكون قوله:{ وأنذِرْهم} وما بعده معترضاً بين جملة{ إن الله سريع الحساب}[ غافر: 17] وجملة{ يَعْلم خائِنة الأعيُن}[ غافر: 19] على الوجهين الآتيين في موقع جملة{ يعلم خائنة الأعين} ،فالواو اعتراضية ،والمناسبة أن ذكر الحساب به يقتضي التذكير بالاستعداد ليوم الحساب وهو يوم الآزفة .
ويوم الآزفة يوم القيامة .وأصل الآزفة اسم فاعل مؤنث مشتق من فعل أزِف الأمر ،إذا قرب ،فالآزفة صفة لموصوف محذوف تقديره: الساعة الآزفة ،أو القيامة الآزفة ،مثل الصاخّة ،فتكون إضافة{ يوم} إلى{ الآزفة} ،حقيقية .f وتقدم القول في تعدية الإِنذار إلى ( اليوم ) في قوله:{ لتنذر يوم التلاقي}[ غافر: 15] .
( و{ إذْ} بدل من{ يوم} فهو اسم زمان منصوب على المفعول به ،مضاف إلى جملة{ القلوب لدى الحناجر} و{ أل} في{ القُلُوبُ} و{ الحناجر} عوض عن المضاف إليه .وأصله: إذْ قلوبهم لدى حناجرهم ،فبواسطة ( أل ) عُوض تعريف الإِضافة بتعريف العهد وهو رَأي نحاة الكوفة ،والبصريون يقدرون: إذ القلوب منهم والحناجر منهم والمعنى: إذ قلوب الذين تنذرهم ،يعني المشركين ،فأمَّا قلوب الصالحين يومئذٍ فمطمئنة .
والقلوب: البضعات الصنوبرية التي تتحرك حركة مستمرة ما دام الجسم حيًّا فتدفع الدم إلى الشرايين التي بها حياة الجسم .
والحناجر: جمع حَنْجَرة بفتح الحاء وفتح الجيم وهي الحُلقوم .ومعنى القلوب لدى الحناجر: أن القلوب يشتدّ اضطراب حركتها من فرط الجزع مما يشاهِده أهلها من بوارق الأهوال حتى تتجاوز القلوبُ مواضعها صاعدة إلى الحناجر كما قال تعالى في ذكر يوم الأحزاب:{ وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر}[ الأحزاب: 10] .
وكاظم: اسم فاعل من كظَم كُظُوماً ،إذا احتبسَ نفَسُه ( بفتح الفاء ) .فمعنى{ كاظمين}: اكنين لا يستطيعون كلاماً .فعلى هذا التأويل لا يقدَّر ل{ كاظمين} مفعول لأنه عومل معاملة الفعل اللازم .ويقال: كَظَم كظماً ،إذا سَدّ شيئاً مجرى ماء أو باباً أو طريقاً فهو كاظم ،فعلى هذا يكون المفعول مقدراً .والتقدير: كاظمينها ،أي كاظمين حناجرهم إشفاقاً من أن تخرج منها قلوبهم من شدة الاضطراب .وانتصب{ كاظمين} على الحال من ضمير الغائب في قوله:{ أنذرهم} على أن الحال حال مقدرة .ويجوز أن يكون حالاً من القلوب على المجاز العقلي بإسناد الكاظم إلى القلوب وإنما الكاظم أصحاب القلوب كما في قوله تعالى:{ فويل لهم مما كتبت أيديهم}[ البقرة: 79] وإنما الكاتبون هم بأيديهم .
وجملة{ ما للظالمين من حميم ولا شفيع يُطاع} في موضع بدل اشتمال من جملة{ القُلُوب لدَى الحناجِر} لأن تلك الحالة تقتضي أن يستشرفوا إلى شفاعة من اتخذوهم ليَشفعوا لهم عند الله فلا يُلفون صديقاً ولا شفيعاً .والحميم: المحب المشفق .
والتعريف في{ الظالمين} للاستغراق ليعم كل ظالم ،أي مشرك فيشمل الظالمين المنذَرين ،ومن مضى من أمثالهم فيكون بمنزلة التذييل ولذلك فليس ذكر الظالمين من الإِظهار في مقام الإِضمار .
ووصْفُ:{ شفيع} بجملة{ يطاع} وصْف كاشف إذ ليس أن المراد لهم شفعاء لا تطاع شفاعتهم لظهور قلة جدوى ذلك ولكن لما كان شأن من يتعرض للشفاعة أن يثق بطاعة المشفوع عنده له .وأُتبع{ شفيع} بوصف{ يطاع} لتلازمهما عرفاً فهو من إيراد نفي الصفة اللازمةِ للموصوف .والمقصودُ: نفي الموصوف بضرب من الكناية التلميحية كقول ابننِ أحمر:
ولا تَرى الضبَّ بها ينْجَحِرْ{[358]}
أي لا ضبّ فيها فينجحر ،وذلك يفيد مفاد التأكيد .
والمعنى: أن الشفيع إذا لم يُطَع فليس بشفيع .والله لا يجترىء أحد على الشفاعة عنده إلا إذا أذن له فلا يشفع عنده إلا مَن يُطاع .