الاستثناء بقوله:{ إلاّ الذين تابوا} راجع إلى الحُكمين خزي الدّنيا وعذاب الآخرة ،بقرينة قوله:{ مِن قبل أن تقدروا عليهم} ،لأنّ تأثير التّوبة في النجاة من عذاب الآخرة لا يتقيّد بما قبل القدرة عليهم .وقد دلّت أداة الاستثناء على سقوط العقوبة عن المحارب في هذه الحالة ؛فتمّ الكلام بها ،لأنّ الاستثناء كلام مستقلّ لا يحتاج إلى زيادة تصريح بانتفاء الحكم المستثنى منه عن المستثنى في استعمال العرب ،وعند جمهور العلماء .فليس المستثنى مسكوتاً عنه كما يقول الحنفية ،ولولا الاستثناء لما دلّت الآية على سقوط عقوبة المحارب المذكورة .فلو قيل: فإن تابوا ،لم تدلّ إلاّ على قبول التّوبة منهم في إسقاط عقاب الآخرة .
ومعنى{ من قبلِ أن تقدروا عليهم} ما كان قبل أن يتحقّق المحارب أنّه مأخوذ أو يضيَّق عليه الحصار أو يطارد في جميع البلاد ويضيق عليه ،فإن أتى قبل ذلك كلّه طائعاً نادماً سقط عنه ما شرع الله له من العقوبة ،لأنّه قد دلّ على انتقال حاله من فساد إلى صلاح فلم تبق حكمة في عقابه .ولمّا لم تتعرّض الآية إلى غُرْم ما أتلفه بحرابته علم أنّ التّوبة لا تؤثّر في سقوط ما كان قد اعتلق به من حقوق النّاس من مال أو دم ،لأنّ ذلك معلوم بأدلّة أخرى .
وقوله:{ فاعلموا أنّ الله غفور رحيم} تذكير بعد تمام الكلام ودفع لعجب من يتعجّب من سقوط العقاب عنهم .فالفاء فصيحة عمّا دلّ عليه الاستثناء من سقوط العقوبة مع عظم الجرْم ،والمعنى: إن عظم عندكم سقوط العقوبة عمّن تاب قبلَ أن يقدر عليه فاعلموا أنّ الله غفور رحيم .
وقد دلّ قوله{ فاعلموا} على تنزيل المخاطبين منزلة من لا يعلم ذلك نظراً لاستعظامهم هذا العفو .وقد رأيتُ أنّ شأن فعل ( اعلم ) أن يدلّ على أهميّة الخبر ،كما سيأتي في قوله تعالى:{ واعلموا أنّ الله يحول بين المرء وقلبه} في سورة الأنفال ( 24 ) وقوله فيها:{ واعلموا أنّما غنمتم}[ الأنفال: 41] .