ثم استثنى ممن يستحقون العقوبة من تاب قبلَ أن يقدر عليه الحاكم .فإن عقوبة الحاكم تسقط عنه ،وتبقى حقوقُ العباد ،أو الحقوق الخاصة ،فهي لا تسقط عنهم إلا إذا سامح أصحاب الحقوق .فإذا رأى الحاكم أن يُسقط الحق الخاص عن الجاني التائب ،ولمصلحةٍ هو يراها وجب على ذلك الحاكم أن يعوض أصحاب الحقوق من مال الدولة .
وفي هذا الحكم بيانُ أن الشريعة الإسلامية تنظر إلى آثار الجريمة التي فيها اعتداء مباشر على المجتمع ،وتجعل العقوبة بقدر ما تحدثه الجريمة من اضطراب فيه ،لا بقدر ذات الجرائم المرتكبة فقط .
ويُروى في سبب نزول هاتين الآيتين أن نفراً من قبيلة عُكل وعرينة قدموا المدينة ،وأعلنوا الإسلام ،فأمر لهم النبيّ بعدد من الإبل وراعٍ ،وأمرهم أن يقيموا خارج المدينة ،فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحَرَّة كفروا بعد إسلامهم ،وقتلوا الراعي وهربوا بالإبل .وحين بلغ ذلك النبيَّ بعث بعض أصحابه فأدركوهم ،وأحضروهم إلى المدينة .فعاقبهم الرسول الكريم أشد عقاب وقُتلوا جميعاً .
وعلى كل حال فإن العبرة بعموم اللفظ .وقد احتج بعموم هذه الآيات جمهور العلماءِ وقالوا: إن حكْم الذين يحاربون الله قائم ،في أي مكان حصل منهم الاعتداء ،في المدن والقرى ،أم خارجها ،لقوله تعالى:{وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً} .وهذا مذهب مالك والأوزاعي واللّيث بن سعد ،والشافعي وأحمد بن حنبل .وزاد مالك فقال: إن الذي يحتال على الرجل حتى يُدخله بيتاً فيقتله ويأخذ ما معه إنما قد حارب الله ،دمُه مهدور ،يقتله السلطان ،حتى لو عفا عنه أولياء المقتول .وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تكون إلا في الطرق وخارج المدن .