قوله:{ ثم لم تكن فتنتهم} عطف على جملة{ ثم نقول} و ( ثم ) للترتيب الرتبي وهو الانتقال من خبر إلى خبر أعظم منه .
والفتنة أصلها الاختبار ،من قولهم: فتنَ الذهَب إذا اختبر خلوصه من الغلْث .وتطلق على اضطراب الرأي من حصول خوف لا يصبر على مثله ،لأنّ مثل ذلك يدلّ على مقدار ثبات من يناله ،فقد يكون ذلك في حالة العيش ؛وقد يكون في البغض والحبّ ؛وقد يكون في الاعتقاد والتفكير وارتباك الأمور .وقد تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى:{ إنّما نحن فتنة فلا تكفر} في سورة[ البقرة: 102] .
{ وفتنتهم} هنا استثني منها{ أن قالوا والله ربّنا ما كنّا مشركين} ،فذلك القول إمّا أن يكون من نوع ما استثني هو منه المحذوف في تفريغ الاستثناء ،فيكون المستثنى منه من الأقوال الموصوفة بأنّها فتنة .
فالتقدير: لم يكن لهم قول هو فتنة لهم إلاّ قولهم{ والله ربّنا ما كنا مشركين} .
وإمّا أن يكون القول المستثنى دالاً على فتنتهم ،أي على أنّهم في فتنة حين قالوه .وأيّاً ما كان فقولهم:{ والله ربّنا ما كنّا مشركين} متضمّن أنّهم مفتونون حينئذٍ .
وعلى ذلك تحتمل الفتنة أن تكون بمعنى اضطراب الرأي والحيرة في الأمر ،ويكون في الكلام إيجاز .والتقدير: فافتتنوا في ماذا يجيبون ،فكان جوابهم أن قالوا:{ والله ربّنا ما كنّا مشركين} فعدل عن المقدّر إلى هذا التركيب لأنّه قد علم أنّ جوابهم ذلك هو فتنتهم لأنّه أثرها ومظهرها .
ويحتمل أن يراد بالفتنة جوابهم الكاذب لأنّه يفضي إلى فتنة صاحبه ،أي تجريب حالة نفسه .
ويحتمل أن تكون أطلقت على معناها الأصلي وهو الاختبار .والمراد به السؤال لأنّ السؤال اختبار عمّا عند المسؤول من العلم ،أو من الصدق وضدّه ،ويتعيّن حينئذٍ تقدير مضاف ،أي لم يكن جواب فتنتهم ،أي سؤالهم عن حال إشراكهم إلاّ أن قالوا:{ والله ربّنا ما كنّا مشركين} .
وقرأ الجمهور{ لم تكن} بتاء تأنيث حرف المضارعة .وقرأه حمزة ،والكسائي ،ويعقوب بياء المضارعة للغائبة باعتبار أنّ{ قالوا} هو اسم ( كان ) .وقرأ الجمهور{ فتنتهم} بالنصب على أنّه خبر ( كان ) ،فتكون ( كان ) ناقصة واسمها{ إلاّ أن قالوا} وإنّما أخّر عن الخبر لأنّه محصور .
وقرأه ابن كثير ،وابن عامر ،وحفص عن عاصم بالرفع على أنّه اسم ( كان ) و{ أنْ قالوا} خبر ( كان ) ،فتجعل ( كان ) تامّة .والمعنى لم توجد فتنة لهم إلاّ قولهم:{ والله ربّنا ما كنّا مشركين} ،أي لم تقع فتنتهم إلاّ أن نفوْا أنّهم أشركوا .
ووجه اتّصال الفعل بعلامة مضارعة للمؤنّث على قراءة نصب{ فتنتهم} هو أنّ فاعله مؤنَّث تقديراً ،لأنّ القول المنسبك من ( أن ) وصلتها من جملة الفتنة على أحد التأويلين .قال أبو علي الفارسي: وذلك نظير التأنيث في اسم العدد في قوله تعالى:{ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها}[ الأنعام: 160] ،لأنّ الأمثال لمّا كانت في معنى الحسنات أنّث اسم عددها .
وقرأ الجمهور{ ربّنا} بالجرّ على الصفة لاسم الجلالة .وقرأه حمزة ،والكسائي ،وخلف بالنصب على النداء بحذف حرفه .
وذكرُهم الربّ بالإضافة إلى ضميرهم مبالغة في التنصّل من الشرك ،أي لا ربّ لنا غيره .وقد كذّبوا وحلفوا على الكذب جرياً على سننهم الذي كانوا عليه في الحياة ،لأنّ المرء يحشر على ما عاش عليه ،ولأنّ الحيرة والدهش الذي أصابهم خيّل إليهم أنّهم يموّهون على الله تعالى فيتخلّصون من العقاب .ولا مانع من صدور الكذب مع ظهور الحقيقة يومئذٍ ،لأنّ الحقائق تظهر لهم وهم يحسبون أنّ غيرهم لا تظهر له ،ولأنّ هذا إخبار منهم عن أمر غائب عن ذلك اليوم فإنّهم أخبروا عن أمورهم في الدنيا .
وفي « صحيح البخاري »: أنّ رجلاً قال لابن عباس: إنِّي أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ ،فذكر منها قوله:{ ولا يكتمون الله حديثاً}[ النساء: 42] وقوله:{ والله ربّنا ما كنّا مشركين} .فقد كتموا في هذه الآية .فقال ابن عباس: إنّ الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم ،فيقول المشركون تعالوا نقل: ما كنّا مشركين ،فيختم على أفواههم فتنطق أيديهم ،فعند ذلك عرفوا أنّ الله لا يُكتم حديثاً .