إيماءٌ إلى أنهم يترقبهم عذاب الجوع بالقحط والجفاف فإن مكة قليلة المياه ولم تكن بها عيون ولا آبار قبل زمزم ،كما دل عليه خبر تعجب القافلة مِن ( جُرْهم ) التي مرّت بموضع مكة حين أسكنها إبراهيم عليه السلام هاجَر بابنه إسماعيل ففجَّر الله لها زمزم ولمحتْ القافلة الطير تحوم حول مكانها فقالوا: ما عهدنا بهذه الأرض ماء ،ثم حفَر ميمون بن خالد الحضرمي بأعلاها بئراً تسمى بئر ميمون في عهد الجاهلية قُبيل البعثة ،وكانت بها بئر أخرى تسمى الجَفْر ( بالجيم ) لبني تيم بن مُرة ،وبئر تسمى الجَم ذكرها ابن عطية وأهملها « القاموس » و« تاجه » ،ولعل هاتين البئرين الأخيرتين لم تكونا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم .
فماء هذه الآبار هو الماء الذي أُنذروا بأنه يصبح غوراً ،وهذا الإِنذار نظير الواقع في سورة القلم ( 17 33 ){ إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة} إلى قوله: لو كانوا يعلمون .
والغور: مصدر غارتْ البئر ،إذا نَزح ماؤها فلم تنله الدلاء .
والمراد: مَاء البئر كما في قوله:{ أو يصبح ماؤها غوراً} في ذكر جنة سورة الكهف ( 41 ) .
وأصل الغور: ذهاب الماء في الأرض ،مصدر غار الماء إذا ذهب في الأرض ،والإِخبار به عن الماء من باب الوصف بالمصدر للمبالغة مثل: عَدل ورِضَى .والمعين: الظاهر على وجه الأرض ،والبئر المعينة: القريبة الماء على وجه التشبه .
والاستفهام في قوله:{ فمن يأتيكم بماء} استفهام إنكاري ،أي لا يأتيكم أحد بماء مَعِين: أي غير الله واكتفي عن ذكره لظهوره من سياق الكلام ومن قوله قبله{ أمَّن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمان}[ الملك: 20] الآيتين .
وقد أصيبوا بقحط شديد بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو المشار إليه في سورة الدخان .ومن المعلوم أن انحباس المطر يتبعه غور مياه الآبار لأن استمدادها من الماء النازل على الأرض ،قال تعالى:{ ألم تَر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض}[ الزمر: 21] وقال:{ وإنَّ من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإنّ منها لما يشَّقّق فيخرج منه الماء}[ البقرة: 74] .
ومن النوادر المتعلقة بهذه الآية ما أشار إليه في « الكشاف » مع ما نقل عنه في « بيانه » ،قال: وعن بعض الشُطَّار ( هو محمد بن زكرياء الطبيب كما بينه المصنف فيما نقل عنه ) أنها ( أي هذه الآية ) تُليت عنده فقال: تجيء به ( أي الماء ) الفُؤوس والمَعاول ،فذهب ماء عينيه .نعوذ بالله من الجرأة على الله وعلى آياته .والله أعلم .