القول في{ نادى} وفي{ أنْ} التّفسيريّة كالقول في:{ ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا}[ الأعراف: 44] الآية .وأصحاب النّار مراد بهم من كان من مشركي أمّة الدّعوة لأنّهم المقصود كما تقدّم ،وليوافق قوله بعدُ{ ولقد جئناهم بكتاب فصلناه}[ الأعراف: 52] .
فعل الفيض حقيقته سيلان الماء وانصبابه بقوّة ويستعمل مجازاً في الكثرة ،ومنه ما في الحديث:"ويَفيض المالُ حتّى لا يقبَله أحد".ويجيء منه مجاز في السّخاء ووفرة العطاء ،ومنه ما في الحديث أنّه قال لطلحة: « أنت الفيَّاض » .فالفيض في الآية إذا حمل على حقيقته كان أصحاب النّار طالبين من أصحاب الجنّة أن يصبّوا عليهم ماء ليشربوا منه ،وعلى هذا المعنى حمله المفسّرون ،ولأجل ذلك جعل الزمخشري عطف{ ما رزقكم الله} عطفاً على الجملة لا على المفرد .فيقدّر عامل بعد حرف العطف يناسب ما عدَا الماءَ تقديره: أو أعطونا ،ونظّره بقول الشّاعر ( أنشده الفراء ):
عَلَفْتُها تِبْنا وماءً بارداً *** حتّى شَبَتْ هَمَّالَةً عيناها
تقديره: علفتها وسَقيتها ماء بارداً ،وعلى هذا الوجه تكون ( مِن ) بمعنى بعض ،أو صفة لموصوف محذوف تقديره: شيئاً من الماء ،لأنّ:{ أفيضوا} يتعدّى بنفسه .
ويجوز عندي أن يحمل الفيض على المعنى المجازي ،وهو سعة العطاء والسّخاء ،من الماء والرزق ،إذ ليس معنى الصبّ بمناسب بل المقصود الإرسال والتّفضل ،ويكون العطف عطف مفرد على مفرد وهو أصل العطف .ويكون سُؤلهم من الطّعام مماثلاً لسؤْلهم من الماء في الكثرة ،فيكون في هذا الحمل تعريض بأن أصحاب الجنّة أهل سخاء ،وتكون ( مِن ) على هذا الوجه بيانية لمعنى الإفاضة ،ويكون فعل{ أفيضوا} مُنزلاً منزلة اللاّزم ،فتتعلّق مِنْ بفعل{ أفيضوا} .
والرّزق مراد به الطّعام كما في قوله تعالى:{ كلما رزقوا منها من ثمرة}[ البقرة: 25] الآية .
وضمير{ قالوا} لأصحاب الجنّة ،وهو جوابهم عن سؤال أصحاب النّار ،ولذلك فصل على طريقة المحاورة .
والتّحريم في قوله:{ حرمهما على الكافرين} مستعمل في معناه اللّغوي وهو المنع كقول عنترة:
حَرُمَتْ عليّ وليتَها لَمْ تَحْرُم
وقولِه:{ وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون}[ الأنبياء: 95] .
والمراد بالكافرين المشركون ،لأنّهم قد عُرفوا في القرآن بأنّهم اتّخذوا دينهم لهواً ولعباً ،وعُرفوا بإنكار لقاءِ يوم الحشر .