الأحسن أن تكون{ وإذ يعدكم الله} معطوفاً على{ كما أخرجك}[ الأنفال: 5] عطفَ المفرد على المفرد فيكون المعطوف مشبهاً به التشبيه المفاد بالكاف والمعنى: كاخراجك اللَّهُ من بيتك وكوقتتِ يعدكم الله إحدى الطائفتين الآية واسم الزمان إذا أضيف إلى الجملة كانت الجملة في تأويل المفرد فتُؤَول بمصدر ،والتقدير: وكوقت وعد الله إحدى الطائفتين ،ف{ إذ} اسم زمان متصرف مجرور بالعطف على مجرور كاف التشبيه ،وجعَل صاحب « الكشاف »{ إذْ} مفعولاً لفعل ( اذكر ) محذوف شأن{ إذْ} الواقعة في مفتتح القِصص ،فيكون عطفُ جملةِ الأمر المقدرِ على جملة{ قل الأنفال لله}[ الأنفال: 1] والمناسبة هي أن كلا القولين فيه توقيفهم على خطأ رأيهم وأن ما كرهوه هو الخير لهم .
و« الطائفة » الجماعة من الناس ،وتقدم عند قوله{ فلتقم طائفةٌ منهم معك} في سورة[ النساء: 102] .
وجملة:{ أنّها لكم} في تأويل مصدر ،هو بدل اشتمال من إحدى الطائفتين ،أي: يعدكم مصيرَ إحدى الطائفتين لكم ،أي كونها معطاة لكم ،وهو إعطاء النصر والغلبة عليها بين قتل وأسر وغنيمة .
واللام للملك وهو هنا ملك عُرفي ،كما يقولون كان يومُ كذا لبني فلان على بني فلان ،فيعرف أنه كان لهم فيه غلبة حرب وهي بالقتل والأسر والغنيمة .
{ وتَودون} إما عطف على{ يعَدكم} أي إذ يقع الوعد من الله والود منكم ،وإما في موضع الحال والواو واو الحال ،أي يعدكم الله إحدى الطائفتين في حال ودكم لقاء الطائفة غير ذات الشوكة وهذا الود هو محل التشبيه الذي أفاده عطف{ وإذ يعدكم} ،مجرور الكاف في قوله:{ كما أخرجك ربك من بيتك بالحق}[ الأنفال: 5] فهو مما شبه به حال سُؤالهم عَن الأنفال سؤالاً مشوباً بكراهية صرف الأنفال عن السائلين عنها الرائمين أخذها .
و« الوُد » المحبة و{ ذات الشوكة} صاحبة الشوكة ووقع{ ذات} صفة لمقدر تقديره الطائفة غير ذات الشوكة ،أي الطائفة التي لا تستطيع القتال .
و{ الشوكة} أصلها الواحدة من الشوك وهو ما يخرج في بعض النبات من أعواد دقيقة تكون محددة الأطراف كالإبَر ،فإذا نزغت جلد الإنسان أدْمته أو آلمته ،وإذا عَلِقَت بثوب أمسكَتْه ،وذلك مثل ما في ورق العَرفج ،ويقال هذه شجرة شائكة ،ومن الكناية عن ظهور الشر قولُهم: « إن العَوسج قد أوْرق » ،وشوكة العقرب البضعة التي في ذنبها تلسع بها .
وشاع استعارة الشوكة للبأس ،يقال: فلان ذو شوكة ،أي ذو بأس يتقى كما يستعار القرن للبَاس في قولهم: أبدى قَرنه ،والناب أيضاً في قولهم: كشّر عن نابه ،وذلك من تشبيه المعقول بالمحسوس أي تودون الطائفة التي لا يخشى بأسها تكون لكم أي ملككم فتأخذونهم .
وقد أشارت الآية إلى ما في قصة بدر حين أخبر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بانصراف عِير قريش نحو الساحل وبمجيء نفيرهم إلى بدر ،وأخبرهم أن الله وعدهم إحدى الطائفتين ،أي إما العِير وإمّا النفير وعداً معلقاً على اختيارهم إحداهما ،ثم استشارهم في الأمر أيختارون اللحاق بالعِير أم يقصدون نفير قريش ،فقال الناس: إنما خرجنا لأجل العِير ،وراموا اللحاق بالعِير واعتذروا بضعف استعدادهم وأنهم يخرجوا لمقاتلة جيش ،وكانت العِير لا تشتمل إلا على أربعين رجلاً وكان النفير فيما قيل يشتمل على ألف رجل مسلّح ،فذلك معنى قوله تعالى:{ وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم} أي تودون غنيمة بدون حرب ،فلما لم يطمعوا بلقاء الجيش وراموا لقاء العِير كانوا يودون أن تحصل لهم غنيمة العير ولعل الاستشارة كانت صورية ،أمر الله بها نبيّه لتثبيت المسلمين لئلا تهن قوتهم النفسية إن أُعلموا بأنهم سيلقون ذات الشوكة .
وقوله:{ ويريد الله أن يحق الحق بكلماته} عطف على جملة{ وتودون} على احتمالي أن واوَها للعطف أو للحال ،والمقصود من الإخبار بهذه الجمل الثلاث إظهار أن ما يودونه ليس فيه كمال مصلحتهم ،وأن الله اختار لهم ما فيه كمال مصلحتهم ،وإن كان يشق عليهم ويرهبهم فإنهم لم يطّلعوا على الأصلح بهم .فهذا تلطف من الله بهم .
والمراد من الإرادة هنا إرادة خاصة وهي المشيئة والتعلق التنجيزي للإرادة التي هي صفة الذات .فهذا كقوله:{ يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}[ البقرة: 185] أي يسَّر بكم .
ومعنى{ يُحق الحق}: يثبت ما يسمى الحق وهو ضد الباطل يقال: حق الشيء ،إذا ثبت قال تعالى:{ أفمن حَق عليه كلمة العذاب}[ الزمر: 19] .
والمراد بالحق .هنا: دين الحق وهو الإسلام ،وقد أطلق عليه اسم الحق في مواضع كثيرة من القرآن كقوله:{ حتى جاءهم الحق ورسولٌ مبينٌ}[ الزخرف: 29] الآية .
وإحقاقه باستيصال معانديه ،فأنتم تريدون نفعاً قليلاً عاجلاً ،وأراد الله نفعاً عظيماً في العاجل والآجل .والله يعلم وأنتم لا تعلمون .