{ ومَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ ومَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ ولاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ ولاَ فِي السَّمَاء ولاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ 61}
لما ذكر تعالى عباده بفضله ، وما يجب عليهم من شكره ، وبكون أكثرهم لا يشكرونه كما يجب عليهم عطف على ذلك تذكيره لهم بإحاطة علمه بشؤونهم وأعمالهم كلها ، صغيرها وكبيرها ، جليلها وحقيرها ، وبكل ما في العوالم علويها وسفليها ، ليحاسبوا أنفسهم على تقصيرهم في ذكره وشكره وعبادته ، وبدأ بخطاب أعظمهم شأنا في أعظم شؤونه فقال{ ومَا تَكُونُ} أيها الرسول{ فِي شَأْنٍ} أي أمر من أمورك المهمة الخاصة بك ، أو العامة التي تعالج بها أمر الأمة ، في الدعوة إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ، إنذارا وتبشيرا ، وتعليما وعملا .
{ ومَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ} أي وما تتلو من أجل ذلك الشأن من قرآن أنزل عليك ، تعبدا به أو تبليغا له ، ف( من ) الأولى للتعليل والثانية للتبعيض ، أو الضمير في ( منه ) للكتاب لأن السياق بل السورة كلها فيه ، وإضماره قبل الذكر ثم بيانه تفخيم له ، وقيل لله ، لذكره في الآية قبلها ، والتعبير في خطابه صلى الله عليه وسلم بالشأن- وهو الأمر العظيم أو ذو البال- يدل على أن جميع أموره وأعماله صلى الله عليه وسلم كانت عظيمة ، حتى العادات منها ؛ لأنه كان قدوة صالحة فيها كلها .
{ ولاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} هذا خطاب عام للأمة كلها في كل شؤونها وأعمالها ، بعد خطاب رأسها وسيدها في أخص شؤونه وأعلاها ، فتذكرك الآية في أخصر الألفاظ وأقصرها بأفضل ما آتاك الله من هداية ونعمة ، وتنتقل بك إلى كل عمل تعمله من شكر وكفر ، وإن كان كمثقال ذرة ، فإن مجيء عمل نكرة منفية يفيد العموم ، ودخول من التبعيضية عليه يؤكد هذا العموم ، فيشمل أدق الأعمال وأحقرها ، وهو في معنى قوله تعالى:{ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} [ الزلزلة:78] .
{ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً} أي رقباء مطلعين عليكم .
{ إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} أي تخوضون وتندفعون فيه ، فنحفظه عليكم لنجزيكم به ، وأصل الإفاضة في الشيء أو من المكان الاندفاع فيه بقوة أو بكثرة كما تقدم في"أفضتم من عرفات ".
{ ومَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ} أي وما يبعد عنه ، ولا يغيب عن علمه ، ولا يخفى عليه .قرأ الجمهور يعزب بضم الزاي ، والكسائي بكسرها ، وهما لغتان فيها .وأصله من قولهم:عزب الرجل يعزب بإبله ، أي يبعد ويغيب في طلب الكلأ العازب ، وهو ما يكون بفلاة بعيدة حيث لا زرع ، ويقال:رجل عزب –بفتحتين- أي منفرد ، ومنه رجل وامرأة عزب أي منفرد لا زوج له أو لها ، ويقال:امرأة عزبة ، واختلف في أعزب وعزباء ، ونفي عزوب الشيء عن الرب تعالى أخص وأبلغ من نفي الغيبة أو الخفاء عنه .كما أن الإفاضة في العمل أخص من إتيانه مطلقا .وحكمة تخصيصها بالذكر دون اللفظ الأعم منها هي أن ما يفيض فيه الإنسان مهمّا به مندفعا فيه جدير بأن لا ينسى أو يغفل عن مراقبة ربه فيه وإطلاعه عليه ، فاللفظ يذكره به تذكيرا منبها مؤثرا .وكذلك لفظ ( يعزب ) الدال على الخفاء والبعد معا ، فكأنه يقول:إن شأنه أن يبعد ويخفي عليكم من أعمالكم لا يغيب عن علم ربكم ، فإنه لا يعزب عنه .
{ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ} أي أقل شيء يبلغ وزنه ثقل ذرة ، وهي النملة الصغيرة يضرب بها المثل في الصغر والخفة ، ويطلق على الدقيقة من الهباء والغبار الذي لا يرى إلا في ضوء الشمس الداخل من الكوى إلى البيوت .
{ فِي الأَرْضِ ولاَ فِي السَّمَاء} أي في الوجود سفليه وعلويه ، وقد ذكر الأرض لأن الكلام مع أهلها ، وأخره في آية سبأ ( 34:3 ) وقدم السماء لأنها في سياق ثنائه تعالى على نفسه ، ووصفه بإحاطة علمه ، فناسب تقديم السماء لأنها أعظم ، فإن فيها من الشموس وعوالمها ما يبعد بعضه عن بعض مسافة ألوف الألوف من السنين التي تقدر أبعادها بسرعة النور ، كما ثبت في علم هذا العصر .
{ ولاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ ولا أَكْبَر} هذا كلام مستقل بنفسه قائم برأسه ، مؤكد لما قبله بتعبير أدق وأشمل ، و( لا ) نافية للجنس على قراءة الجمهور ، أي ولا شيء أصغر من الذَرة ، وهو ما لا تبصرونه من دقائق الكون كما قال:{ فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون} [ الحاقة:38 ، 39] ، ولا أكبر منها وإن عظم مقداره كعرشه عز وجل ، وقرأ حمزة ويعقوب أصغر بالرفع على الابتداء والخبر ، ولا يخفى توجيهه في الإعراب على أهله .قدم ذكر الأصغر لأنه هو الأهم في سياق العلم بالخفي ، وعطف عليه الأكبر لإفادة الإحاطة ، وكون الأكبر لا يكبر عليه ، كما أن الأصغر لا يعزب عنه .
{ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} أي إلا وهو معلوم ومحصى عنده ، ومرقوم في كتاب عظيم الشأن تام البيان ، وهو الكتاب الذي كتب فيه مقادير الموجودات كلها إكمالا للنظام ، وقد بينا ما ورد في هذا الكتاب المبين في تفسير{ وعنده مفاتح الغيب} [ الأنعام:59] الآية من سورة الأنعام فراجعه في الجزء السادس من هذا التفسير .
وفي الآية إشارة إلى ما في الوجود من أشياء لا تدركها الأبصار ، وقد رئي كثير منها في هذا العصر بالآلات التي تكبر المرئيات أضعافا كثيرة ، ولم يكن هذا مما يخطر في البال في عصر التنزيل ، فهو من دقائق تعبير القرآن ، التي تظهر حكمتها للناس آنا بعد آنا ، وتقدم التذكير بما لها من الأمثال التي هي من أنواع الإعجاز .