/م59
{ ومَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} سجل عليهم جريمة افتراء الكذب على الله ، وهو اختلاقه ، وقفى عليه الوعيد عليه مشيرا إلى ما يكون من سوء حالهم وشدة عقابهم يوم القيامة .والمعنى أي شيء ظنهم في ذلك اليوم الذي تجزى فيه كل نفس ما عملت ؟ أيظنون أنهم يتركون بغير عقاب على جريمة افتراء الكذب على الله وهو تعمده في حق خاص بربوبيته ، فهو نزاع له فيها وشرك به ، كما قال:{ أم لهم شراء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} [ الشورى:21] الآية ، فويل للمعمين من جهلاء المقلدين ، الذين يحرمون على الناس ويحلون لهم بتقليد بعض المؤلفين ، أو باتباع الهوى والرأي في الدين ، وهم يتلون قوله:{ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب} إلى قوله:{ ولهم عذاب أليم} [ النحل:116] .
{ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} هذه الآية بيان مستأنف يتضمن بمفهومه تعليلا لما فهم مما قبلها من عقاب المفترين على الله بكونه عدلا استحقوه بظلمهم لأنفسهم لا ظلما منه ، وهو إثبات فضله على الناس بهذه الجملة المؤكدة أشد التوكيد ، فأفاد أن صاحب هذا الفضل العظيم عليهم-لمجرد إحسانه إليهم- ليس من شأنه أن يكون ظالما لهم إذا قابلوا أكثر فضله ونعمه بأشد الكفر وأنكره ، وهذا المعنى المفهوم من الآيتين من أغرب إيجاز القرآن المعجز للبشر .والمعنى:تالله إن الله لذو فضل عظيم على الناس في كل ما خلقه لهم من الرزق ، وكل ما شرعه لهم من الدين ، ومنه أنه جعل الأصل فيما أنزله إليهم من الرزق الإباحة ، وجعل حق التحريم والتحليل له وحده عز وجل ، لكيلا يتحكم فيهم أمثالهم من عباده ، كالذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، كما تقدم في تفسير سورة التوبةبراءةوهو لم يحرم عليهم إلا ما هو ضار بهم ، ولهذا أباح لهم ما حرمه عليهم إذا اضطروا إليه ، وكان تركه أضر من تناوله ، وحصر أصول محرمات الطعام في قوله:{ قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم} [ الأنعام:145] ، وفصل أنواع الميتة المحرمة في أول سورة المائدة ( 3:5 ) فراجع تفسير الآيتين .
{ ولَكِنَّ أَكْثَرَ الناسْ لاَ يَشْكُرُونَ} فضله عليهم كما يجب ، كما قال:{ وقليل من عبادي الشكور} [ سبأ:13] فيجنون على أنفسهم بتحريم ما لم يحرمه عليهم ، وبغير ذلك من كفر نعمه المادية والمعنوية ، كالغلو في الزهد ، وترك الزينة والطيبات من الرزق ، وفي ضد ذلك من الإسراف في الأكل والشرب ، وزينة اللباس ابتغاء الشهرة والخيلاء والتكبر على الناس ، وشر من ذلك كله تحريمه تعبدا ، والإسلام يأمر بالوسط والاعتدال{ لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله} [ الطلاق:7] الآية .
أخرج الإمام أحمد من طرق عن أبي الأحوص -وهو عوف بن مالك بن نضلة- يحدث عن أبيه قال:أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا رثّ الهيئة فقال: "هل لك مال ؟ "قلت:نعم ، قال: "من أي المال ؟ ".قلت:من كل المال ، من الإبل والرقيق والخيل والغنم .فقال: "إذا آتاك الله مالا فليُرَ عليك "{[1726]} الحديث .وفي رواية أصحاب السنن الثلاثة عنه: "إذا أتاك الله مالا فلير أثر نعمة الله عليك وكرامته "{[1727]} ، وأخرج البخاري في التاريخ والطبراني والضياء بسند صحيح عن زهير بن أبي علقمة مرفوعا: "إذا أتاك الله مالا فلير عليك ، فإن الله يحب أن يرى أثره على عبده حسنا ، ولا يحب البؤس ولا التباؤس ".
والشكر نصف الإيمان ، بحسب متعلقاته من الأعمال والأحوال ، وهي ما يجب على العبد لربه ولعباده من استعمال نعمه عليه فيما يرضيه من أحكام شرعه ، وموافقة سننه وحكمته في خلقه ، والنصف الآخر الصبر ، وهو ما يجب في حال وقوع المكاره والابتلاء من عمل بدني ونفسي .ويضاد الشكر الكفر ، وهو قسمان:كفر النعم ، وكفر المنعم ، وأنصح للقارئ أن يطالع كتاب الصبر والشكر في المجلد الرابع من إحياء العلوم للغزالي .