/م59
قال عزّ وجلّ لنبيه صلى الله عليه وسلم{ قُلْ أَرَأَيْتُم} أي أخبروني أيها الجاحدون للوحي والتشريع الإلهي{ مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ} أي هذا الذي أفاضه الله عليكم من سماء فضله وإحسانه من رزق تعيشون به من نبات وحيوان ، وكل عطاء منه تعالى يعبر عنه بالإنزال كقوله:{ وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} [ الزمر:6] وقوله:{ وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس} [ الحديد:25] .
{ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وحَلاَلاً} أي فترتب على إنزاله لمنفعتكم أن جعلتم بعضه حراما وبعضه حلالا .وقد تقدم تفصيل هذا في سورة الأنعام من قوله تعالى:{ وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ والأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وهَذَا لِشُرَكَآئِنَا} [ الأنعام:136] إلى قوله{ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَذَا} [ الأنعام:150] ، وفي معناها قوله من سورة المائدة{ مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ ولاَ وصِيلَةٍ ولاَ حَامٍ ولَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [ المائدة:103] أي يفترون عليه بتحريم ما لم يحرمه ، وقال هنا وهو المراد من الاستخبار:
{ قُلْ آاللّهُ أَذِنَ لَكُمْ} هذا الاستفهام للتقرير ، ومدت همزته لدخولها على ألف اسم الجلالة .أي إنه ليس لأحد حق أن يحرم على الناس ويحل لهم إلا ربهم الله ، فهل الله هو الذي أذن لكم بذلك بوحي أنزله إليكم ؟
{ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ} بزعمكم أنه حرمها عليكم ؟ أي لا مندوحة لكم عن الإقرار بأحد الأمرين:إما دعوى الإذن من الله لكم بالتحليل والتحريم ، وهو اعتراف بالوحي ، وأنتم تنكرونه وتلحون وتلجون في الإنكار ، وتزعمون أنه محال عليه تعالى أن يوحي إلى أحد من الناس ، وإما الافتراء على الله ؟ وهو الذي يلزمكم بإنكار الأول ؛ إذ لا واسطة بينهما .ويحتمل أن يكون الاستفهام للإنكار وأم متصلة ، فيكون المعنى إن الله لم يأذن لكم ؛ بل أنتم تفترون على الله تعالى ، والغاية واحدة ، وأصل الفري قطع الجلد لمصلحة ، والافتراء تكلفة ، وغلب في تعمد الكذب .
قال الكرخي في هذا الاستفهام:وكفى به زاجرا لمن أفتى بغير إتقان ، كبعض فقهاء هذا الزمان .
وقال العماد ابن كثير في تفسيره:وقد أنكر الله على من حرم ما أحل الله ، أو أحل ما حرم ، بمجرد الآراء والأهواء التي لا مستند لها ، ولا دليل عليها اه .
ونحن نقول:وكفى به زاجرا لمن يحرمون على الناس ما لم يحرمه الله تعالى بنص كتابه ، كالتحريم بالرأي والقياس ، أو بدليل ظني من الكتاب والحديث غير قطعي الرواية والدلالة ، وهو مخالف لهذه الآية وأمثالها ، والمروي عن السلف أن التحريم لا يكون إلا بنص قطعي ، وهو أصل مذهب الحنفية ، والكرخي منهم ، وقد تقدم بيان هذا مرارا في هذا التفسير ، ومنه قول القاضي أبي يوسف:لم يكونوا يقولون في شيء:إنه حرام إلا ما كان بينا في كتاب الله بلا تفسير .
وفي هذه الآية قواعد أشرنا إلى ثلاث منها:
القاعدة الأولى:إن الأصل في كل ما خلقه الله تعالى للناس من الأرزاق نباتها وحيوانها الإباحة ، وهو يتضمن بطلان قول من يحرمون أكل اللحوم ، ولهم على هذا شبهتان:
أولاهما قديمة ، وهي زعمهم أن أكل لحم الحيوان يتوقف على تذكيته بالذبح وغيره وهو تعذيب مستقبح عقلا ، وجوابه أن هذا القول جهل ، فإن التذكية الشرعية ليست تعذيبا ، وربما كانت أهون من موته بسبب آخر من أسباب الموت ، كافتراس سبع ، أو ترد من مكان عال ، أو اختناق بين شجرتين مثلا ، أو نطاح ، أو وقذ راع قاس ، أو معتد آخر ، وقد حرم الله في آية المائدة ( 5:3 ) أكل ما مات بسبب من هذه الأسباب ، كالذي يموت حتف أنفه .ونهى الشرع عن تعذيب أي ذي روح ، وحث على رحمته ، كما تقدم قريبا في تفسير الرحمة ، وقال نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته ، وليرح ذبيحته "{[1725]} .رواه مسلم من حديث شداد بن ثابت رضي الله عنه ، والذبح بهذه الصفة لا يؤلم الحيوان إلا لحظة قصيرة ، والحيوانات لا تشعر بالألم بقدر ما يشعر به البشر ، كما قرره بعض علماء هذا الشأن .
الشبهة الثانية:حادثة ، وهي ما يزعمه النباتيون الذين يفضلون الأغذية النباتية على الحيوانية من كون أكل اللحوم ضارا للناس ، وجوابنا عنها أنهم إن عزموا أن أكل اللحم يضر كل آكل منهم مطلقا فهذا زعم تبطله التجارب وينكره أكثر أطباء العالم ، وإن قالوا:إنه يضر بعضهم كأصحاب أمراض الترف وضعاف المعدة ( كالرئية والنقرس ) فهذا لا يقتضي تحريمه عليهم كلهم بالإطلاق ، وحكم الشرع في المضار الحظر ومنه عام وخاص .
القاعدة الثانية والثالثة:إن تشريع التحريم الديني هو حق الله تعالى وحده ، وإن جعله لغيره شرك به ، وقد بسطنا هذا في مواضع من هذا التفسير بدلالة الآيات والسنة والآثار .
القاعدة الرابعة:إن ما خلقه الله وسخره لنا من سائر منافع الكون فالأصل فيه الإباحة كالرزق ، ويؤخذ من هذه الآية بالفحوى ، وبناء المنة فيه على كونه منه تعالى ، وهو صريح قوله:{ هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} [ البقرة:29] .