/م57
{ قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} فضل الله على جميع عباده عظيم وهو على المؤمنين منهم أعظم ، ورحمته العامة لهم وبهم واسعة ، ورحمته الخاصة بالمؤمنين أوسع ، وبكل من النوعين نطق القرآن ، وقد من تعالى عليهم بالجمع لهم بين الفضل والرحمة في آيات ، وبكل منهما في آيات ، وقال بعد الجمع بينهما في آيتين من سورة النور:{ ولَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا ولَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاء واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [ النور:21] ، وإن دخول الباء على كل من الفضل والرحمة هنا يدل على استقلال كل منهما بالفرح به ، فهو يرد ما روي عن مجاهد من أن المراد بهما واحد وهو القرآن ، ويرده أيضا ما روي عن المأثور في تفسير كل منهما بمعنى ، ومنه ما رواه أبو الشيخ وابن مردويه من حديث أنس مرفوعا: "فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله "، وروي عن البراء وأبي سعيد الخدري موقوفا .
وعن ابن عباس روايتان:إحداهما:أن فضل الله القرآن ورحمته الإسلام .والثانية:أن الفضل العلم والرحمة محمد صلى الله عليه وسلم .
وعن الحسن والضحاك وقتادة ومجاهد في الرواية الثانية عنه ، فضل الله الإيمان ورحمته القرآن .
وكل هذه المعاني صحيحة في نفسها لا في روايتها ، وأظهرها في الآية' وهو المناسب لما قبلها ، والجامع لمعاني الروايات كلها- أن فضل الله توفيقه إياهم لتزكية أنفسهم بالموعظة والشفاء والهدى التي امتاز بها القرآن ، ورحمته ثمرتها التي فضلوا بها جميع الناس ، فكانوا أرحمهم ، بعد أن كانوا أعدلهم وأبرهم بهم ، فقد أمرهم هذا القرآن بالبر والعدل وإقامة القسط في المؤمن والكافر ، والبر والفاجر ، وأمرهم بالرحمة حتى في المحاربين لهم بقدر ما يدفع شرهم ، كما فصلناه في المقصد الثامن من مقاصد القرآن في مباحث الوحي ، ولولا مراعاة هذا التناسب لقلت:إن المراد بفضله تعالى على هذه الأمة هو قوله تعالى:{ وكذلك جعلناكم أمة وسطا} [ البقرة:143] وقوله:{ كنتم خير أمة أخرجت للناس} [ آل عمران:110] ولكن ما قلته يدخل في معناه ويوافقه ، ولكل مقام مقال .
والفرح – كالسرور- انفعال نفسي بنعمة حسية أو معنوية يلذ القلب ويشرح الصدر ، وضدهما الأسى والحزن ، وهما من الوجدان الطبيعي ، لا يمدحان ولا يذمان لذاتهما ، بل حكمهما حكم سببهما أو أثرهما في النفس والعمل ، خلافا لبعض الناس من الصوفية وغيرهم فيهما ، فقد أمر الله تعالى هنا بالفرح بفضله ورحمته ، ومدح المؤمنين بالفرح في قوله:{ ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله} [ الروم:4] ، وهذا فرح بأمر ديني دنيوي ، ثم قال فيها{ وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها} [ الروم:36] ، وقال في أهل الكتاب الذين يؤمنون به صلى الله عليه وسلم ويهتدون بالقرآن{ والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك} [ الرعد:36] .
وذم سبحانه الفرح بالباطل وفرح البطر والغرور بالمال ومتاع الدنيا وشهواتها في عدة آيات معروفة ، وجعل الاعتدال بين الفرح والأسى والحزن من صفات المؤمنين ، فقال بعد ذكر تربيتهم بالمصائب المقدرة في كتاب الله{ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ ولَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ واللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [ الحديد:23] ، وتقدم تحقيق الكلام في الحزن في تفسير سورة براءة ( ج 10 تفسير ) .
والتعبير في الآية في غاية البلاغة لما فيها من التأكيد والمبالغة في التقرير ، فإن أصل المعنى بدونهما:قل ليفرحوا بفضل الله وبرحمته ، فأخر الأمر وقدم عليه متعلقه لإفادة الاختصاص ، كأنه:قال إن كان في الدنيا شيء يستحق أن يفرح به فهو فضل الله ورحمته ، وأدخل عليه الفاء لإفادة معنى السببية ، فصار فيهما فليفرحوا دون ما يجمعون من متاع الدنيا المبين في آخر الآية ، ثم أدخل على الأمر ( فبذلك ) لزيادة التأكيد والتقرير ، وتفصيل مباحثه في الإعراب أكثر مما قلنا ، وبسطه يشغل عن المعنى والاعتبار به ، وهو خروج عن منهجنا في هذا التفسير .
ثم قال:{ هُو خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} أي أن الفرح بفضله وبرحمته أفضل وأنفع لهم مما يجمعونه من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث وسائر متاع الحياة الدنيا ، مع فقدهما ، ولأنه سبب سعادة الآخرة الباقية ، المفضلة على الحياة الدنيا الفانية ، كما اشتهر فيما خطته الأقلام ولاكته الألسنة ، بل لأنه هو الذي يجمع بين سعادة الدارين كما حصل بالفعل ، إذ كانت هداية الإسلام بفضل الله وبرحمته سببا لما ناله المسلمون في العصور الأولى من الملك الواسع ، والمال الكثير ، مع الصلاح والإصلاح ، والعدل والإحسان ، والعلم والعرفان ، والعز الكبير ، فلما صار جمع المال ومتاع الدنيا وفرح البطر به هو المقصود لهم بالذات ، وتركوا هداية الدين في إنفاقه والشكر عليه ، ذهبت دنياهم من أيديهم إلى أعدائهم كما شرحناه مرارا .