/م90
{ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} قال أبو جعفر بن جرير الطبري:يقول تعالى ذكره لفرعون:فاليوم نجعلك على نجوة من الأرض ببدنك ينظر إليك من كذب بهلاكك .{ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} يقول:لمن بعدك من الناس عبرة يعتبرون بك ، فينزجرون عن معصية الله والكفر به ، والسعي في أرضه بالفساد .والنجوة الموضع المرتفع من الأرض .ومنه قول أوس بن حجر:
فمن بعقوته كمن بنجوته***والمستكنُّ كمن يمشي بقرواح{[1732]}
ثم ذكر روايته عمن قال بهذا القول ، وقال أهل اللغة:سمي المكان المرتفع نجوة ونجاةوزاد بعضهم:منجىلأن من عليه ينجو من السيل ، وإنما دفعه ودفعهم إلى تفسير الآية بهذا الوجه من اللغة أن إنجاء الإنسان من الغرق إنما يكون بخروجه حيا ببدنه ونفسه ، كما تقدم قريبا في إنجاء نوح ومن معه في الفلك ، وكل استعماله في القرآن بمعنى النجاة من العذاب ، كإنجاء بني إسرائيل من فرعون وآله ، وقال بعضهم:إن التعبير بالتنجية تهكم به ، وأن الحكمة بذكر البدن أنه يخرج جسده سالما ليعرف .وقيل:إن المراد بالبدن الدرع ، فهو من أسمائها في اللغة ، وإنما محل العبرة أن يلفظه البحر ببدنه ليعرف فيعتبر بنو إسرائيل -الذي قيل إنهم شكوا في غرقه- ويعتبر القبط الذين عبدوه ، ولذلك قيل:إن درعه كانت معروفة ، وأنها من الذهب ، أو كان له فوق درع الزرد درع أخرى من الذهب ، ولكن الدروع تقتضي رسوب الغريق في البحر إلا أن يجرفه الموج .وأما العبرة لمن بعده فهي أعم:هي ما سيقت القصة لأجله من كونها شاهدا كالتي قبلها على صدق وعد الله لرسله ، ووعيده لأعدائهم كطغاة مكة التي أنزلت هذه الآيات- بل هذه السورة كلها - لإقامة حجج الله عليهم في هذه المسألة قبل غيرهم ، لأنهم أول من بلغته الدعوة .
وقوله تعالى:{ وإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} تعريض بهم ، وأكده هذا التأكيد لما تقتضيه شدة الغفلة من قوة التنبيه ، أي إنهم لشديدو الغفلة عنها على شدة ظهورها ، فلا يتفكرون في أسبابها ونتائجها وحكم الله فيها ، ولا يعتبرون بها ، وإنما يمرون عليها معرضين كما يمرون على مسارح الأنعام ، وفيه ذم للغفلة وعدم التفكر في أسباب الحوادث وعواقبها واستبانة سنن الله فيها للاعتبار والاتعاظ بها ، ومن العجيب أن يكون أهل القرآن منهم ، كلا ، إنه حجة على الغافلين ، بريء منهم .