{ ولَقَدْ بَوأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوأَ صِدْقٍ ورَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ 93}
هذه الآية خاتمة هذه القصة ، ومنتهى العبرة فيها لمكذبي محمد صلى الله عليه وسلم والجاحدين من قومه المغرورين بقوتهم وكثرتهم وثروتهم في موسى ، والجاحدين لآياته من فرعون وقومه ، وقد كانوا أكثر منهم عددا ، وأشد قوة ، وأعظم زينة ، وأوفر ثروة ، وسنة الله تعالى في موسى ومن قبله واحدة ، وقصته كقصة نوح في العاقبة ، وأما نصر الله لمحمد نبي الرحمة وإنجاز وعده له ، قد جرى على وجه أتم وأكمل في غايته ، وإن لم يكن غريبا في صورته ، وهو أن الله تعالى أهلك أكثر زعماء أعدائه المشركين ، وأخضع له الآخرين ، وجعل العاقبة لأتباعه المؤمنين ، وأعطاهم أعظم ملك في العالمين ، ومنه ما كان أعطى موسى من قبل وهو فلسطين .قال:
{ ولَقَدْ بَوأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوأَ صِدْقٍ} قلنا آنفا:إن المبوأ مكان الإقامة الأمين ، وأضيف إلى الصدق لدلالته على صدق وعد الله تعالى لهم به ، وهو منزلهم من بلاد الشام الجنوبية المعروفة بفلسطين .
{ ورَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ} فيه ، وهي التي أشير إليها في وصف أرضها من كتبهم بأنها تفيض لبنا وعسلا ، وما فيها من الغلات والثمرات والأنعام ، وكذا صيد البر والبحر ، وقد بينا من قبل ما كان من وعد الله لهم بهذه الأرض المباركة على لسان إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، ومن أيلولة هذه الأرض من بعدهم لذرية إبراهيم من العرب بعد حرمان اليهود منه ، تصديقا لوعيد أنبيائهم لهم على كفرهم بنعم الله تعالى أولا ، ثم بكفرهم بعيسى ، ثم بمحمد رسول الله النبي الأمي الذي وعدهم به على لسانه ولسان من قبله كما تقدم تفصيله في تفسير سورة الأعراف ، وأشير إليه هنا بقوله:{ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ} على قول بعض المفسرين:إن المراد بالعلم هنا محمد صلى الله عليه وسلم أو رسالته أو القرآن الذي هو أكمل وأتم ما أنزل الله من علم الدين ، وقوله تعالى في سياق الرد على أهل الكتاب{ لكن الله يعلم بما أنزل إليك أنزله بعمله} [ النساء:166] وقوله:{ فاعلموا أنما أنزل بعلم الله} [ هود:14] وقوله:{ بكتاب فصلناه على علم} [ الأعراف:52] فقد كانوا متفقين على بشارة أنبيائهم به قبل بعثته ، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به .
وقال آخرون -وهو الأظهر-:إن المراد هنا علم الدين مطلقا ، وقد اختلفوا فيه كغيرهم ممن أوتوا الكتب من وجوه فصلناها في تفسير الآية العامة في الاختلاف وهي ( 2:213 ) ، وفي الآية 19 من هذه السورة وما هي ببعيد .
{ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} إذ جعلوا الدواء عين الداء في أمر الدين بعد إذ أنزل عليهم الكتاب ليحكم بينهم فاختلفوا في الكتاب بغيا بينهم .