{ ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم} النصح تحري الصلاح والخير للمنصوح له والإخلاص فيه قولا وعملا من قولهم ناصح العسل لخالصه المصفى منه ، ونصح له أفصح من نصحه ، والإغواء الإيقاع في الغي وهو الفساد الحسي والمعنوي ، والمعنى أن نصحي لكم لا ينفعكم بمجرد إرادتي له فيما أدعوكم إليه وإنما يتوقف نفعه على إرادة الله تعالى ، وقد مضت سنته تعالى بما عرف بالتجارب أن نفع النصح له شرطان أو طرفان هما الفاعل للنصح والقابل له ، وإنما يقبله المستعد للرشد ، ويرفضه من غلب عليه الغي والفساد ، بمقارفة أسبابه من الغرور بالغنى والجاه والكبر ، وهو غمط الحق واحتقار المتكبر لمن يزدري من الناس وتعصبه لما كان عليه الآباء والأجداد ، واتباع الهوى وحب الشهوات المانعة من طاعة الله ، فمعنى إرادة الله تعالى لإغوائهم اقتضاء سنته فيهم أن يكونوا من الغاوين ، لا خلقه للغواية فيهم جزافا أنفا [ بضمتين] أي ابتداء بغير عمل ولا كسب منهم لأسبابها ، فإن هذا مضاد لمذهب أهل السنة في إثبات خلق الأشياء مقدرة بأقدارها ، ترتبط أسبابها بمسبباتها .
وفسر ابن جرير [ يغويكم] بيهلككم بعذابه ، وقد ورد الغي بهذا المعنى ومنه قوله تعالى:{ فسوف يلقون غيا} [ مريم:59] وحكي عن طيئ قولهم:أصبح فلان غاويا ، إذا أصبح مريضا .وأصل الغي فساد الجهاز الهضمي من كثرة الغذاء أو سوئه .تقول العرب:غوي الفصيل إذا فسد جوفه وبشم من كثرة اللبن ، ثم توسعوا فيه فاستعمل في الفساد المعنوي من الانهماك في الجهل وكل ما ينافي الرشد .والقرائن هي التي ترجح بعض المعاني على بعض ، وموافقة سنن الله وأقداره شرط في الكل ، وبه يعرف الحق في اختلاف الأشاعرة والمعتزلة في الآية وأمثالها بناء على اختلافهم في إرادة الله تعالى لكل من الخير والشر مطلقا ، وتقدم بسط ذلك في مواضع من هذا التفسير .
{ هو ربكم وإليه ترجعون} أي هو مالك أموركم ومدبرها ومسيرها على سننه المطردة في الدنيا ، ولكل شيء عنده قدر ، ولكل قدر أجل ، وإليه ترجعون في الآخرة فيجزيكم بأعمالكم خيرها وشرها لا يظلم أحدا .
/خ49