/م153
قال تعالى:
{ فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف} أي فبسبب نقض أهل الكتاب لميثاقهم الذين واثقهم الله به إذ نكثوا فيه ، وأحلوا ما حرمه وحرموا ما أحله ، وكفرهم بآيات الله التي أراهم منها ما لم يره سواهم ، وقتلهم الأنبياء الذين بعثوا لهدايتهم ، كزكريا ويحيى عليهما السلام ، وقولهم قلوبنا غلف ، وغير ذلك من سيئاتهم التي يذكر أهم كبائرها في الآيات الآتية- أي بسبب هذا كله فعلنا بهم ما فعلنا من اللعن والغضب وضرب الذلة والمسكنة وإزالة الملك والاستقلال ، لأن هذه الذنوب قد مزقت نسيج وحدتهم ، وفرقت شمل أمتهم ، وذهبت بريحهم وقوتهم ، وأفسدت جميع أخلاقهم ، فكل ما حل بهم من البلاء ، هو أثر ذلك النقض والكفر والعصيان .
فعلم من هذا أن قوله تعالى:{ فبما نقضهم} متعلق بمحذوف يدل عليه ما عرف من حالهم في القرآن ، وفي التاريخ والعيان ، مثل هذا الحذف كثير في الكلام ، و كلمة"ما "الفاصلة بين الباء و قوله: "نقضهم "تفيد التأكيد سواء كانت مزيدة في الإعراب ، أو نكرة تامة مجرورة بالباء ونقضهم بدل منها .وقيل إنه متعلق بقوله تعالى في الآية الأتية:{ حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} [ النساء:160] كأنه قال فبسبب نقضهم ميثاقهم وكفرهم وقتلهم الأنبياء وقولهم غلف ، وبكفرهم بعد ذلك بعيسى وافترائهم على أمه ، وتبجحهم بدعوى قتله ، وبظلمهم في غير ذلك من أعمالهم وأحكامهم حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم الخ فيكون قوله تعالى{ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم} الخ بدلا من قوله تعالى:{ فبما نقضهم ميثاقهم} ومثل هذا معهود في الكلام إذا طال .ولكن اعتراض هذا من جهة المعنى لا الإعراب .وذلك أن تحريم تلك الطيبات عليهم كان قبل هذه الجرائم التي منها قتل الأنبياء وبهت المسيح ووالدته العذراء ، وأن تحريم بعض الطيبات عليهم عقاب قليل لا يقابل هذه الموبقات كلها بل هو قليل على واحدة منها ، فهو إنما كان جزاء على ما دون هذه الموبقات من ظلمهم لأنفسهم .
وأما قولهم:( قلوبنا غلف ) فذكر المفسرون فيه وجهين أحدهما:أن ( غلف ) جمع ( أغلف ) وهو الذي غلاف يمنع نفود الشيء إليه .أي أن قلوبهم لا ينفذ إليها شيء مما جاء به الرسول فهي لا تدركه وهو لا يؤثر فيها .كما حكى الله تعالى عن المشركين:{ وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب} [ فصلت:5] وثانيها:أنه جمع غلاف ( ككتاب وكتب ) وسكنت اللام فيه كما تسكن إلى شيء جديد تستفيده من الرسول أو من غيره .
وقد رد الله تعالى عليهم هذا الزعم بقوله:{ بل طبع الله عليهم بكفرهم} أي ليس ما وصفوا به قلوبهم هو الحق الواقع بل طبع الله عليها بكفرهم أي كان كفرهم شديدا وما له من الأثر القبيح في الأخلاقهم وأعمالهم سببا للطبع على قلوبهم أي جعلها كالسكة المطبوعة ( الدراهم مثلا ) في قساوتها وتكيفها بطبعة خاصة لا تقبل غيرها من النقوش ، فهم بجمودهم على ذلك الكفر التقليدي ولوازمه لا ينظرون في شيء آخر نظر استدلال واعتبار ، ولا يتأملون فيه تأمل الإخلاص والاستبصار ، وإنما النظر والتأمل من الأمور الممكنة التي ينالها كسبهم ، ويصل إليها اختيارهم ، ولكنهم لا يختارون إلا ما ألفوا وتعودوا ، ومن لم ينظر لم يبصر ، ومن لم يبصر لم يؤمن ،{ فلا يؤمنون إلا قليلا} من الإيمان كإيمانهم بموسى والتوراة وهو إيمان لا يعتد به ، لأنه-على ضعفه في نفسه- تفريق بين الله ورسله ، ( وتقدم بيان هذا ) أو إلا قليلا منهم- كعبد الله بن سلام وأصحابه-وكذلك كان .