/م153
{ وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله} أي وبسبب قولهم هذا فإنه قول يؤذن بمنتهى الجرأة على الباطل ، والضراوة بارتكاب الجرائم ، واستهزاء بآيات الله ورسله .ووصفه هنا بصفة الرسالة للإيذان بتهكمهم به عليه السلام واستهزائهم بدعوته .وهو أن أناجيلهم ناطقة بأنه كان موحدا لله تعالى مدعيا للرسالة كقوله في رواية إنجيل يوحنا ( 3:17 وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ، ويسوع المسيح الذي أرسلته ) ويجوز أن يكون قوله:( رسول الله ) منصوبا على المدح أو الاختصاص للإشارة إلى فظاعة عملهم ، ودرجة جهلهم وشناعة زعمهم .
{ وما قتلوه وما صلبوه} أي الحال أنهم ما قتلوه كما زعموا تبجحا بالجريمة وما صلبوه كما ادعوا وشاع بين الناس{ ولكن شبه لهم} أي وقع لهم الشبهة أو الشبه فظنوا أنهم صلبوا عيسى وإنما صلبوا غيره ، ومثل هذا الشبه أو الاشتباه يقع في كل زمان كما سنبينه قريبا{ وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن} أي وإن الذين اختلفوا في شأن عيسى من أهل الكتاب في شك من حقيقة أمره أي في حيرة وتردد ما لهم به من علم ثابت قطعي لكنهم يتبعون الظن أي القرائن التي ترجح بعض الآراء الخلافية على بعض .فالشك الذي هو التردد بين أمرين شامل لمجموعهم لا لكل فرد من أفرادهم ، هذا إذا كان-كما يقول المنطق- لا يستعمل إلا فيما تساوى طرفاه بحيث لا يترجح أحدهما على الآخر ، والذين يتبعون الظن في أمرهم أفراد رجحوا بعض ما وقع الاختلاف فيه على بعض بالقرائن أو بالهوى والميل .والصواب أن هذا معنى اصطلاحي للشك ، وأما معناه في أصل اللغة فهو نحو من معنى الجهل ، وعدم استبانة ما يجول في الذهن من الأمر ، قال الركاض الدبيري:
يشك عليك الأمر ما دام مقبلا *** وتعرف ما فيه إذا هو أدبرا{[616]}
فجعل المعرفة في مقابلة الشك .وقال ابن الأحمر:
وأشياء مما يعطف المرء ذا النهى *** تشك علي فما أستبينها{[617]}
وفي لسان العرب أن الشك ضد اليقين .فهو إذا يشمل الظن في اصطلاح أهل المنطق ، وهو ما ترجح أحد طرفيه .فالشك في صلب المسيح هو التردد فيه أكان هو المصلوب أم غيره ؟ فبعض المختلفين في أمره الشاكين فيه يقول إنه هو ، وبعضهم يقول إنه غيره ، وما لأحد منها علم يقيني بذلك وإنما يتبعن الظن .وقوله تعالى:{ إلا اتباع الظن} استثناء منقطع كما علم من تفسيرنا له .وفي الأناجيل المعتمدة عند النصارى أن المسيح قال لتلاميذه ( كلكم تشكون في هذه الليلة ) أي التي يطلب فيها للقتل ( متى 26:31 ومرقس 13:27 ) .
فإذا كانت أناجيلهم لا تزال ناطقة بأنه أخبر أن تلاميذه وأعرف الناس به يشكون فيه في ذلك الوقت وخبره صادق قطعا فهل يستغرب اشتباه غيرهم وشك من دونهم في أمره ، وقد قصته رواية تاريخية منقطعة الإسناد ؟
{ وما قتلوه يقينا} أي وما قتلوا عيسى ابن مريم قتلا يقينا أو متيقنين أنه هو بعينه لأنهم لم يكونوا يعرفونه حق المعرفة .وهذه الأناجيل المعتمدة عند النصارى تصرح بأن الذي أسلمه إلى الجند هو يهوذا الأسخريوطي وأنه جعل لهم علامة أن من قبله يكون هو يسوع المسيح فلما قبله قبضوا عليه .وأما إنجيل برنابا فيصرح بأن الجنود أخذوا يهوذا الأسخريوطي نفسه ظنا أنه المسيح لأنه ألقى عليه شبهه .فالذي لا خلاف فيه هو أن الجنود ما كانوا يعرفون شخص المسيح معرفة يقينية .وقيل إن الضمير في قوله تعالى:{ وما قتلوه يقينا} للعلم الذي نفاه عنهم ، والمعنى ما لهم به من علم لكنهم يتبعون الظن وما قتلوا العلم يقينا وتثبتا به بل رضوا بتلك الظنون التي يتخبطون فيها .يقال قتلت علما وخبرا-كما في الأساس- إذا أحطت به واستوليت عليه حتى لا ينازع ذهنك منه اضطراب ولا ارتياب .وروي عن ابن عباس أنه راجع إلى الظن الذي يتبعونه ، قال: "وما قتلوه يقينا "رواه ابن جرير ، أي أنهم يتبعون ظنا غير ممحص ولا موفى أسباب الترجيح والحكم التي توصل إلى العلم .وقد اختلفت رواية المفسرين بالمأثور في هذه المسألة لأن عمدتهم فيها النقل عمن أسلم من اليهود والنصارى وهؤلاء كانوا مختلفين ما لهم به من علم يقيني ، ولكن الروايات عنهم تشتمل على نحو ما عند النصارى من مقدمات القصة ، كجمع المسيح لحوارييه ( أو تلاميذه ) وخدمته إياهم وغسله لأرجلهم ، وقوله لبعضهم أنه ينكره قبل صياح الديك ثلاث مرات ، ومن بيعه بدلالة أعدائه عليه في مقابلة مال قليل ، وكون الدلالة عليه كانت بتقبيل الدال عليه له .ولكن بعضهم قال أن شبهه ألقى على من دلهم عليه ، وبعضهم قال بل ألقى شبهه على جميع ما كانوا معه ، وروى ابن جرير القولين عن وهب بن منبه .والحاصل أن جميع روايات المسلمين متفقة على أن عيسى عليه السلام نجا من أيدي مريدي قتله فقتلوا آخر ظانين أنه هو .
/خ159