{ قل لا يستوي الخبيث والطيب} أي قل أيها الرسول مخاطبا كل فرد من أفراد أمة الدعوة:لا يستوي الخبيث والطيب من الأشياء والأعمال والأموال – كالضار والنافع ، والفاسد والصالح ، والحرام والحلال ولا من الناس كالظالم والعادل ، والجاهل والعالم ، والمفسد والمصلح ، والبر والفاجر والمؤمن والكافر .فلكل من الخبيث والطيب في القسم الأول حكم يليق به عند الله تعالى ، ولكل منهما في القسم الآخر جزاء ومكان يستحقه بحسب صفته ( سيجزيهم وصفهم ) وهو الحكيم العليم الذي يضع كل شيء في موضعه .ولعل نكتة تقديم الخبيث في الذكر كون السياق للاهتمام بإزالة شبهة المغترين بكثرته ولذلك قال:{ ولو أعجبك كثرة الخبيث} الخطاب من الرسول لكل مكلف بلغته دعوته كما تقدم ، أي ولو أعجبك أيها السامع كثرة الخبيث من الناس لقوتهم ، أو من الأموال المحرمة لسهولة تناولها ، والتوسع في التمتع بها ، كأكل الربا والرشوة والغلول والخيانة ، أو لدعوى أصحابها أنها دليل على حب الله لهم ورضاه عنهم ، إذ فضلهم بها على غيرهم ،{ وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين} [ سبأ:35] .
أي لا يستويان في أنفسهما ولا عند الله ولو فرض أن كثرة الخبيث أعجبتك وغرتك فصرت بعيدا عن إدراك حقيقة الأمر ، وهي أن القليل من الحلال كراتب الحاكم العادل وربح التاجر الصادق ، خير من كثير الحرام كالرشوة والخيانة ، باعتبار حسن العاقبة في الدنيا والآخرة ، كما أن القليل الجيد من الغذاء أو المتاع خير من الكثير الرديء الذي لا يغني غناءه ولا يفيد فائدته .بل ربما يضر آكله ويفسد عليه معدته .
كذلك القليل الطيب من الناس خير من الكثير الخبيث ، فالفئة القليلة من أهل الشجاعة والثبات والإيمان ، تغلب الفئة الكثيرة من ذوي الجبن والتخاذل والشرك ، وأن أفرادا من أولي البصيرة والرأي ، ليأتون بما تعجز عنه الجماعات من أهل الغباوة والخرق ، والعالم الحكيم ، يسخر لخدمته ألوفا من الجاهلين{ قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [ الزمر:9] .
كان المشركون يفخرون على المؤمنين في صدر الإسلام بكثرتهم ويعتزون بها{ وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا} [ سبأ:35] فضرب الله تعالى لهم مثل الكافر الذي فاخر المؤمن بقوله:{ أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا} [ الكهف:34] وكيف كانت عاقبة أمره خسرا .وقال لهم:{ ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين} [ الأنفال:19] ثم قال للمؤمنين تثبيتا لهم حتى لا تروعهم كثرة المشركين في عَددهم وعُددهم{ واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم بنصره} [ الأنفال:26] وجاءت هذه الآية بالقاعدة العامة وهي أن العبرة بصفة الشيء لا بعدده ، وإنما تكون العزة بالكثرة بعد التساوي في الصفات ولما كان من دأب أهل الغفلة والجهل والغرور بالكثرة مطلقا قال تعالى تعقيبا على ما أثبته من تفضيل الطيب على الخبيث وإن كثر الخبيث{ فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون ( 100 )} أي فاتقوا الله يا أصحاب العقول الراجحة ولا تغتروا بكثرة المال الخبيث ، ولا بكثرة أهل الباطل والفساد من الخبيثين ، فإن تقوى الله تعالى هي التي تنظمكم في سلك الطيبين ، فيرجى لكم أن تكونوا من المفلحين ، أي الفائزين بخير الدنيا والآخرة .
وإنما خص أولي الألباب بالذكر في عجز الآية بعد مخاطبة كل مكلف في صدرها لأن أهل البصيرة والروية من العقلاء هم الذين يعتبرون بعواقب الأمور التي تدل عليها أوائلها ومقدماتها ، بعد التأمل في حقيقتها وصفاتها ، فلا يصرون على الغرور بكثرة الخبيث ، بعد التنبيه والتذكير .وأما الأغرار الغافلون الذين لم يمرنوا عقولهم على الاستقلال في النظر ، والاعتبار بالتجارب والحكم ، فلا يفيدهم وعظ واعظ ولا تذكير مذكر ، بل لا يعتبرون بما يرون بأعينه ويسمعون بآذانهم من حوادث الأغنياء الذين ذهبت أموالهم الكثيرة المجموعة من الحرام ، والأمم والدول التي اضمحلت كثرتها العاطلة من فضيلتي العلم والنظام ، وكيف ورث هؤلاء وأولئك من كانوا أقل مالا ورجالا ، إذ كانوا أفضل أخلاقا وأعمالا ،{ والعاقبة للمتقين} [ الأعراف:128] .
روي عن السدي أن المراد بالخبيث هنا المشركون وبالطيب المؤمنون .وروي عن أبي هريرة قال:لدرهم حلال أتصدق به أحب إلي من مائة ألف ومائة ألف حرام ، فإن شئتم فاقرؤوا كتاب الله{ قل لا يستوي الخبيث والطيب} وروى ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن الإسكندراني قال:كتب إلى عمر بن عبد العزيز بعض عماله يذكر أن الخراج قد انكسر ، فكتب إليه عمر:إن الله يقول:{ لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث} فإن استطعت أن تكون في العدل والإصلاح والإحسان بمنزلة من كان قبلك في الظلم والفجور والعدوان فافعل .ولا قوة إلا بالله .