بعدما تقدم من تفويض عيسى أمر قومه إلى ربه عز وجل بتلك العبارة البليغة ، في أثر تلك الأجوبة السديدة ، تتوجه النفس إلى معرفة ما يقوله الرب في ذلك اليوم العظيم وتسأل عنه بلسان الحال أو المقال إن لم تسمعه وذلك قوله عز وجل:{ قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم} قرأ الجمهور «يوم » بالرفع وهو خبر هذا ، أي قال الله تعالى:إن هذا اليوم هو اليوم الذي ينفع فيه الصادقين صدقهم في إيمانهم وشهاداتهم ، وفي سائر أقوالهم وأحوالهم .وقرأه نافع بالنصب – وقيل البناء على الفتح – أي قال الله:هذا أي الذي قاله عيسى واقع أو كائن يوم ينفع الصادقين صدقهم .ثم بين هذا النفع بيانا مستأنفا فقال:{ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم} الجملة الأولى تقدم تفسيرها مرارا .وأما الجملة الثانية فهي بيان للنعيم الروحاني بعد ذكر النعيم الجثماني ، فإن رضاء الله تعالى عنهم ورضاءهم عنه هو غاية السعادة الأبدية في نفسه ، وفيما يترتب عليه من عطاياه تعالى وإكرامه ، ومن كونهم يكونون ناعمين بذلك الإكرام مغتبطين به ، إذ لا مطلب لهم أعلى منه فتمتد أعناقهم إليه ، وتستشرف قلوبهم له حتى يتوقف رضاهم عليه ، وأما كونه سعادة في نفسه فيعلم من حال كل من كان في كنف إنسان والد أو أستاذ أو قائد أو رئيس أو سلطان فإن علمه برضاه عنه يجعله في غبطة وهناء وطمأنينة قلب ، ويكون سروره وزهوه بذلك على قدر مقام رئيسه الراضي عنه ، على حد البيت الذي يتمثل به الصوفية:
قوم تخالجهم زهو بسيدهم *** والعبد يزهى على مقدار مولاه
على أن رضاء رؤساء الدنيا لا يستلزم رضاء المرؤوسين دائما ، لأن منهم الظالمين الذين لا يوفون أحدا حقه وإن كانوا راضين عنه ، ورضاء أكرم الأكرمين يستلزم رضاء من رضي هو عنه لأنه يعطيه أضعاف ما يستحق ، وفوق ما يؤمل ويرجو ، كما قال تعالى في سورة الم السجدة{ فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} [ السجدة:17] ورضوانه تعالى فوق كل شيء كما قال في سورة التوبة بمعنى ما هنا{ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ، وهو الفوز العظيم} [ التوبة:72] .
والفوز الظفر بالمطلوب مع النجاة من ضده أو مما يحول دونه .وقال الراغب:الفوز الظفر بالخير مع حصول السلامة .فمعناه مركب من سلب وإيجاب ، كما يدل عليه قوله تعالى:{ فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} [ آل عمران:185] وإطلاقه على الظفر بالمطلوب وحده- كما في الآية التي نفسرها وآية التوبة التي بمعناها وما يشابهها- مراعى فيه المعنى السلبي بالقرائن الحالية ، كما يقال في الجيش الذي يغلب عدوه ويظفر بالغنائم منه:إنه فاز ، وهو إذا نال مراده من هدم قلعة ودك حصن فهلك تحت أنقاضه فلا يقال إنه قد فاز .وإذا كان المهم في الفوز المعنى الإيجابي يعدى بالباء فيقال:فاز بكذا ، وإذا كان المهم بيان المعنى السلبي يعدى بمن فيقال:فاز من الهلاك قال تعالى:{ فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب} [ أل عمران:177] وإنما سميت الفلاة مفازة على سبيل التفاؤل لأنها مظنة الهلاك .
الإشارة في قوله تعالى:{ ذلك الفوز العظيم} إلى كل من النعيمين الجثماني والروحاني اللذين يحصلان بعد النجاة من أهوال يوم القيامة ، وقيل إنه للثاني فقط ، والأول أصح لأنه الأكمل ، ولأن مثل هذا الإطلاق ورد في إثر إطلاق الجزاء بالجنة وحدها في آيتين من سورة التوبة غير الآية التي أوردناها آنفا ، وفي إثر إطلاق الجزاء بالجنة مع النجاة من عذاب النار كما تراه في آخر سورة الدخان ، وفي معناه ما في سورة المؤمن والحديد والصف والتغابن ، فإن ذكر المغفرة فيها يتضمن معنى النجاة من عذاب النار .فنسأل الله الكريم الرحمن الرحيم ، أن يجعلنا من أهل هذا الفوز العظيم ، بفضله وإحسانه ، وتوفيقنا لأسباب مرضاته .