{ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين ( 93 )} ورد في عدة روايات تقدم بعضها أن بعض الصحابة استشكلوا عند نزول هذا التشديد في الخمر والميسر حال من مات من المؤمنين الذين كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر ، ولا سيما من حضر منهم غزوتي بدر وأحد ، وكان أمر الخمر عندهم أهم ، ومنهم من كلم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك .وفي رواية أنهم سألوا عمن ماتوا وعن الغائبين الذين لم تبلغهم آية القطع بالتحريم .وأن هذه الآية نزلت جوابا لهم ، وقيل إن الآية نزلت فيمن كانوا يشددون على أنفسهم في الطيبات من الطعام والشراب ، ختما للسياق بما يتعلق بحال من بدئ بهم ، والروايات المأثورة على الأول .
الطعام ما يؤكل ، والطعم ( بالفتح ) ما يدرك بذوق الفم من حلاوة ومرارة وغيرهما .يقال:طعم ( كعلم وغنم ) فلان بمعنى أكل الطعام- وطعم الشيء يطعمه ذاق طعمه أو ذاقه فوجد طعمه منه ، استعمل في ذوق طعم الشيء من طعام وشراب بأخذ قليل منه بمقدم الفم .ومن الأول قوله تعالى:{ فإذا طعمتم فانتشروا} [ الأحزاب:53] أي أكلتم ، ومن الثاني{ فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمنه فإنه مني} [ البقرة:249] أي لم يدق طعم مائه .قال الجوهري:الطعم بالفتح ما يؤديه الذوق ، يقال طعمه مر أو حلو وقال:طعم يطعم طعما ( بالضم ) فهو طاعم إذا أكل أو ذاق – مثل غنم يغنم غنما فهو غانم – فالطعم بالضم مصدر .وأنشد ابن الأعرابي:
فأما بنو عامر بالنسار *** غداة لقولنا فكانوا نعاما{[838]}
نعاما يخطمه صعر الخدو *** دلا تطعم الماء إلا صياما
شبههم بالنعام التي لا ترد الماء ولا تذوقه .وصرح في لسان العرب بأن طعم بمعنى أكل الطعام وأنه إذا جعل بمعنى الذوق جاز فيما يؤكل ويشرب .واستشهد المفسرون له بقول الشاعر:
فإن شئت حرمت النساء سواكم *** وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا{[839]}
النقاخ بالضم الماء البارد ، والبرد النوم .قال الزمخشري:ألا ترى كيف عطف عليه البرد وهو النوم .ويقال:ما ذقت غماضا اه .
قال الآلوسي في تفسيره:وأما استعماله ( أي طعم الماء ) بمعنى شربه واتخذ طعاما فقبيح إلا أن يقتضيه المقام ، كما في حديث «زمزم طعام طعم وشفاء سقم » فإنه تنبيه على أنها تغذي بخلاف سائر المياه .ولا يخدش هذا ما حكي أن خالدا القسري قال على منبر الكوفة وقد خرج عليه المغيرة بن سعد:أطعموني ماء .فعابت عليه العرب ذلك وهجوه به ، وحملوه على شدة جزعه وقيل فيه:
بل المنابر من خوف ومن وهل *** واستطعم الماء لما جد في الهرب
وألحن الناس كل الناس قاطبة *** وكان يولع بالتشديق في الخطب
لأن ذلك إنما عيب عليه لأنه صدر عن جزع فكان مظنة الوهم وعدم قصد المعنى الصحيح ، وإلا فوقوع مثله في كلامهم مما لا ينبغي أن يشك فيه اه ..
أقول أما الحديث فرواه ابن أبي شيبة والبزار بسند صحيح وهو على تشبيه مائها بالغذاء فليس مما نحن فيه .وأما كلام خالد فهو لحن إلا أن يريد به أديقوني طعم الماء – مبالغة في طلب القليل منه .ولا يقع مثله في كلام الفصحاء إلا بهذا المعنى ، فإذا لا يمكن أن يكون طعم في القرآن بمعنى الشرب مطلقا ، ولا يجوز أن يفيد هذا المعنى إلا بالتبع لمعنى الأكل تغليبا له ، فيجعل »طعموا » هنا بمعنى أكلوا الميسر وشربوا الخمر .كتغليب الأكل في كل استعمال في مثل النهي عن أكل أموال اليتامى وعن أكل أموال الناس بالباطل .ولم أر أحدا هدي إلى هذا الإيضاح بهذا التدقيق .
والجناح ما فيه مشقة أو مؤاخذة .أنشد ابن الأعرابي:
ولاقيت من جمل وأسباب حبها *** جناح الذي لقيت من تربها قبل{[840]}
وقال ابن حلزة:
أعلينا جناح كندة أن يغ *** نم غازيهم ومنا الجزاء{[841]}
ويفسرونه غالبا بالإثم وهو ما فيه الضرر ، والضرر يكون دينيا ودنيويا ، ولم يستعمل في القرآن إلا في حيز النفي بمعنى رفع الحرج والمؤاخذة .
ومعنى الآية على رأي الجمهور «ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات » من الأحياء والميتين ، والشاهدين والغائبين «جناج » إثم ولا مؤاخذة «فيما طعموا » أكلوا من الميسر أو شربوا من الخمر فيما مضى قبل تحريمهما – ولا في غير ذلك مما لم يكن محرما ثم حرم «إذا ما اتقوا » أي إذا هم اتقوا في ذلك العهد ما كان محرما عليهم – ومنه الإسراف في الأكل والشرب من المباح «وآمنوا » بما كان قد نزله الله تعالى «وعملوا الصالحات » التي كانت قد شرعت كالصلاة والصيام والجهاد «ثم اتقوا » ما حرمه الله تعالى بعد ذلك عند العلم به «وآمنوا » بما نزل فيه وفي غيره – كما قال{ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا ، فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا فهم يستبشرون ، وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم} [ التوبة:124 ، 125] وكما قال:{ ويزداد الذين آمنوا إيمانا} [ المدثر:31]{ وعملوا الصالحات} التي هي من لوازم الإيمان ، «ثم اتقوا » أي ارتقوا عن ذلك فاتقوا الشبهات تورعا وابتعادا من الحرام ، «وأحسنوا » أعمالهم الصالحات بأن أتوا بها على وجه الكمال ، وتمموا نقصها بنوافل الطاعات{ والله يحب المحسنين ( 93 )} فلا يبقى في قلوبهم أثرا من الآثار السيئة التي وصف بها الخمر والميسر من الإيقاع في العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، وهما صقال القلوب وزيتها الذي يمد نور الإيمان .
وطالما استشكل المفسرون اشتراط ما اشترطته الآية لنفي الجناح من التقوى المثلثة والإيمان المثنى والإحسان الموحد ، وطالما ضربوا في بيداء التأويل واستنباط الآراء ، وطالما رد بعضهم ما قاله الآخرون في ذلك ، وسبب ذلك اتفاقهم على أن الله تعالى لا يؤاخذ يوم القيامة أحدا بعمله قبل تحريمه كما قال تعالى بعد ذكر محرمات النكاح ( إلا ما قد سلف ) فقيل إن ما ذكر ليس بشرط لرفع الجناح بل لبيان حال من نزلت فيهم الآية .وأما تكرار التقوى فقيل إنه لمجرد التأكيد ، أو للأزمنة الثلاثة ، أو لاختلاف ما يتقى من الكفر والكبائر والصغائر ، أو من مطلق ومقيد ، أو بعضها للثبات والدوام .
وغفل هؤلاء عن معنى الشبهة التي وقعت لبعض الصحابة ونزلت الآية جوابا عنها .وبيانها من وجهين:
أحدهما:أن الله تعالى حرم الخمر والميسر في الآية الأولى من هذه الآيات وبين في الثانية علة التحريم من وجهين ، وهذه العلة لازمة لهما ، فإذا لم تكن مطردة في العداوة والبغضاء ، فهي مطردة في الصد عن ذكر الله وعن الصلاة ، وناهيك بما ينقص من دين من صد عنهما .وإنما كمال الدين ومناط الجزاء في الآخرة ما يكون من تأثير الإيمان والعمل الصالح في تزكية النفس ، وإنارة القلب .
ثانيهما:إن الله تعالى قد عرض بتحريم الخمر قبل نزول آيات المائدة بما بينه في سورة البقرة والنساء – واللبيب تكفيه الإشارة – فكان من لم يفطن لذلك مقصرا في اجتهاده ، وربما كان ذلك لإيثار الهوى أو الشهوة .
هذا وجه الشبهة ، وتخليص الجواب عنها أن من صح إيمانه فصلح عمله وعمل في كل وقت بالنصوص القطعية المنزلة ، وبحسب ما أداه إليه اجتهاده في الظنية ، واستقام على ذلك حتى ارتقى إلى مقام الإحسان – فلا يحول دون تزكية ذلك لنفسه وصقله لقلبه ، ما كان قد أكل أو شرب مما لم يكن محرما عليه بحسب اعتقاده ، وإن كان في ذلك من الإثم ما حرم بعد لأجله .
ذلك بأن الله تعالى ما حرم شيئا إلا لضرره في الجسم أو العقل أو الدين أو المال أو العرض ، والضرر يختلف باختلاف الأشخاص والأوقات والأحوال وقد يتخلف أحيانا ، إذ يكفي في التحريم أن يكون ضارا في الغالب ، فمن عمل عملا من شأنه الضرر في الجسم فربما ينجو من ضرره بقوة مزاجه إذا هو لم يسرف فيه ، ومن عمل عملا من شأنه نقص الدين – وهو غير محرم عليه أو غير عالم بتحريمه - فربما ينجو من سوء تأثيره الذاتي بقوة إيمانه ويقينه وكثرة أعماله الصالحة ، بحيث يكون ذلك الضرر كنقطة من القذر وقعت في البحر أو النهر ، ولكن قوة الإيمان ورسوخ الدين بالعمل الصالح ينافي الإقدام على ارتكاب المحرم ، إلا ما يكون من اللمم والهفوات التي لا يصر المؤمن عليها .
فالنجاح العظيم والخطر الكبير من ارتكاب المعصية بعد العلم بتحريمها ليس فيما عساه يصيب مرتكبها من ضررها الذاتي التي حرمت لأجله فقط ، لأن هذا قد يتخلف أو يكون ضعيفا أو مغلوبا ، بل الجناح والخطر الديني في الإقدام على مخالفة أمر الله تعالى وترجيح هوى النفس على مقتضى الإيمان والاعتقاد .وهذا شيء قد حفظ الله منه من كانوا يشربون الخمر من أهل بدر وأحد .بل حفظهم الله تعالى من ضرر الخمر الاجتماعي الدنيوي أيضا ، لأنهم لم يسرفوا فيها ولا سيما بعد نزول آية سورة النساء التي لم تبق لهم إلا وقتا ضيقا لشربها .والآية تدل على ذلك .ويؤيده أن الله تعالى قد ألف بين قلوبهم بنعمته إخوانا .بل كان ذلك شأن الصحابة عامة ، كان يكاد الشقاق يقع بينهم كما مر في أسباب نزول الآيات ، ولكن لا يلبث أن يغلبه الإيمان ، فيكونوا مصداقا لقوله تعالى{ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} [ الأعراب:201] فالمعصية لا تفسد الروح إلا إذا كان فاعلها غير مبال بحرمة الشرع ، ولا يكون تأثيرها الذاتي قويا إلا بالإسراف فيها والإصرار عليها .
وقد سألني بعض الباحثين في علم الأخلاق وفلسفة الاجتماع من المصريين عن السبب في سوء تأثير الزنا في إفساد أخلاق فساق المصريين وإذلال أنفسهم وإضعاف بأسهم وعدم تأثيره في اليابانيين مثل هذا التأثير ؟ فأجبته على الفور:إن اليابانيين لا يدينون الله بحرمة الزنا كالمصريين ، فمعظم ضرره فيهم بدني وأقله اجتماعي ، ولكن ليس له ضرر روحي فيهم .وأما المصريون فمعظم ضرره فيهم روحي لأنهم يقدمون على شيء يعتقدون دينا وعرفا بقبحه وفحشه ، فهم بذلك يوطنون أنفسهم على دنية الفحش والاتصاف بالقبح ، فلذلك كان من أسباب المهانة والفساد فيهم .فأعجب بالجواب وأذعن له .
شبهة لعشاق الخمر ودحضها
قال الإمام الرازي:زعم بعض الجهال أنه تعالى لما بين في الخمر أنها محرمة عندما تكون موقعة في العداوة والبغضاء وصادة عن ذكر الله وعن الصلاة – بين في هذه الآية أنه لا جناح على من طعمها إذا لم يحصل معه شيء من تلك المفاسد ، بل حصل معه أنواع المصالح من الطاعة والتقوى والإحسان إلى الخلق – قالوا:- ولا يمكن حمله على أحوال من شرب الخمر قبل نزول آية التحريم ، لأنه لو كان المراد ذلك لقال:«ما كان جناح على الذين طعموا » كما ذكر مثل ذلك في آية تحويل القبلة{ وما كان الله ليضيع إيمانكم} [ البقرة:143] ولكنه لم يقل ذلك بل قال:{ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح} – إلى قوله –{ إذا ما اتقوا وآمنوا} [ المائدة:93] ولا شك أن «إذا » للمستقبل لا للماضي .واعلم أن هذا القول مردود بإجماع كل الأمة . وقولهم أن كلمة إذا للمستقبل لا للماضي – فجوابه ما روى أبو بكر الأصم أنه لما نزل تحريم الخمر قال أبو بكر:يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القمار ؟ وكيف بالغائبين عنا في البلدان لا يشعرون أن الله حرم الخمر وهم يطعمونها ؟ فأنزل الله هذه الآيات [ الصواب الآية] وعلى هذا التقدير فالحل قد ثبت في الزمان المستقبل عن وقت نزول هذه الآية لكن في حق الغائبين الذين لم يبلغهم هذا النص . اه كلام الرازي بحروفه .
وأقول إن جوابه ضعيف فيما أقره وفيما رده إلا نقل الإجماع ، وقد كان رحمه الله على سعة اطلاعه في العلوم العقلية والنقلية غير دقيق في البلاغة وأساليب اللغة حتى إن عبارته نفسها ضعيفة .والصواب أن يقال في الرد على احتجاج أصحاب هذا التحريف .
أولا:أن قوله تعالى:«ليس على الذين آمنوا » الخ .ليس خبرا عمن نزلت بسبب السؤال عنهم الآية ، وإنما هي قاعدة عامة إنشائية المعنى يعلم منها حكم من مات قبل القطع بتحريم الخمر وحكم من نزلت الآية في عهدهم وتليت عليهم وحكم غيرهم من عصرهم إلى آخر الزمان .وهذا أبلغ وأعم فائدة من بيان حكم المسؤول عنهم خاصة .
وثانيا:أن قول المشتبهين:لو كان المراد من الآية بيان حكم الذين ماتوا لقال:«ما كان جناح على الذين طعموا » – باطل ، وقوله تعالى:{ وما كان ليضيع إيمانكم} الذي احتجوا به لا يدل على ما زعموا ؛ فإن مثل هذا التركيب يدل على نفي الشأن لا على نفي حديث مضى ، فمعناه:ما كان من شأنه تعالى ولا من مقتضى سنته وحكمته أن يضيع إيمانكم ، وقد بينا هذا من قبل غير مرة ونقلناه عن الكشاف ، فهو يعم الماضي والمستقبل ، ومثله{ ما كان لنا أن نشرك بالله} [ يوسف:38] ويشبه العبارة التي قالوها قوله تعالى:{ ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له} [ الأحزاب:33] ولم يقل أحد إنها نفي الحرج في الزمن الماضي ، بل تعم نفيه في الحال والاستقبال وهو موضع الفائدة له صلى الله عليه وسلم منها .
وثالثا:لو كان معنى الآية ما ذكروه لأخذ به من شق عليهم تحريم الخمر من الصحابة ومن كان يميل إليها بعدهم .
نعم أنه لولا ما ورد من سبب نزول الآية لكان المتبادر من معناها أنه ليس على المؤمنين الصالحين تضييق وإعنات فيما أكلوا [ وإن شئت قلت أو شربوا] من اللذائذ – كما توهم الذين كانوا حرموا على أنفسهم طيبات ما أحل الله لهم مبالغة في النسك – إذا كانوا معتصمين بعرى التقوى في جميع الأوقات والأحوال ، راسخين في الإيمان متحلين بصالح الأعمال محسنين فيها ، لأن الله تعالى لم يحرم عليهم شيئا من الطيبات ، وإنما حرم عليهم الخبائث ، كالميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله والخمر والميسر .وأكل أموال الناس بالباطل ، وإنما الجناح والحرج في الطعام والشراب على الكافرين والفاسقين ، الذين يسرفون فيهما ، ويجعلونهما أكبر همهم من حياتهم الدنيا ،ولا يجتنبون الخبيث منهما .فالعبرة في الدين بالإيمان والتقوى والعمل الصالح والإحسان فذلك هو النسك كله ، لا بالطعام والشراب وتعذيب النفوس وإرهاقها .ولعل شيخنا لو فسر الآية لجزم بأن هذا هو المعنى المراد ، وأن ما ورد في سبب نزولها- إذا صح- يؤخذ الجواب عنه من فحوى الآية .وهو أنه لا جناح على من كانوا يشربون الخمر قبل تحريمها لأن العمدة في الدين هو التقوى لا أمر الطعام والشراب الذي لا يحرم منه شيء إلا لضرره وإذا لم يراع سبب النزول في تفسير الآية فلا يمكن أن يقال أن معناها «ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات إثم فيما يشربون من الخمر » بعد القطع بتحريمها وتأكيده بما في سياق آيات التحريم من المؤكدات:لأن كلمة ( طعموا ) لا مدلول لها في اللغة إلا على أكل الطعام في الماضي أو تذوق كل ما له طعم من طعام وشراب بمقدم الفم في الزمن الماضي أيضا ، ولو صح أن يكون معنى الآية ما ذكروه لكان نسخا لتحريم شرب الخمر متصلا بالتحريم المؤكد ، أو تخصيصا له بغير أهل التقوى الكاملة من المؤمنين الصالحين .وليس لهذا نظير في الإسلام ، ولا في غيره من الشرائع والأديان ، ولا يتفق مع بلاغة القرآن .فإن قيل:إن الأفعال الماضية إذا وردت في سياق الأحكام التشريعية والقواعد العملية تفيد التكرار الذي يعم المستقبل ، بمعنى أن الفعل كلما وقع كان حكمه كذا- فلم لا يجوز على هذا أن يكون معنى الآية رفع الحرج والمؤاخذة عن المؤمن إذا شرب قليلا من الخمر بالشروط الشديدة المبينة فيها ، ويدخل في عموم التقوى منها أن لا يسكر ولا يكون بحيث توقع الخمر وبين أحد من الناس بغضا ولا عداوة ولا بحيث تصده عن ذكر الله وعن الصلاة ؟
قلت:إن الطعم في اللغة لا يدل على الشرب القليل ولا الكثير بل على ذوق المشروب بمقدم الفم ، أو إدراك طعمه من ذوقه بهذه الصفة كما حرره الجوهري وتبعه ابن الأثير في النهاية ، وقد مر بيان ذلك .وأنت ترى الفرق الجلي بين الشرب الكثير والشرب القليل وبين طعم الماء بتذوقه في قصة طالوت{ قال إن الله مبتليكم بنهر- فمن شرب منه فليس مني ، ومن لم يطعمه فإنه مني ، إلا من اغترف غرفة بيده .فشريوا منه إلا قليلا منهم} [ البقرة:249] فقد جعل هذا الابتلاء على ثلاث مراتب:
الأولى:البراءة ممن شرب حتى روي .الثانية:الاتحاد التام بمن لم يذق طعمه البتة .الثالثة:بين بين وهي لمن أخذ غرفة بيده فكسر بها سورة الطمإ ولم يكرع فيروه .هذا ما جرينا عليه في تفسير الآية ( ج2 ) وهو ما تعطيه اللغة وجرى عليه جهابذتها في تفسير اللفظ كالزمخشري وتبعه البيضاوي وأبو السعود والرازي والآلوسي وغيرهم ، وقالوا إن قوله:«إلا من اغترف غرفة » استثناء من قوله:«فمن شرب منه » إلا أن بعضهم خلط ، وأدخل في تفسير الآية ما لا يدل عليها لفظها ، تبعا للروايات أو لاصطلاحات الفقهاء فيما يحنث به من حلف أنه لا يشرب من هذا النهر مثلا .وإذا كان هذا هو معنى طعموا فلا فائدة من إباحة تذوق طعم الخمر بمقدم الفم لأحد ، فيكون لغوا ينزه كتاب الله عنه .
ولو كان المراد من الآية ما ذكروه لكان نصها:ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح في شرب القليل من الخمر- أو ما لا يسكر ولا يضر من الخمر- إذا ما اتقوا- الخ ، ولكان أجدر الناس بفهم ذلك منها من أنزلت عليه صلى الله عليه وسلم ومن خوطبوا بها أولا من فصحاء العرب ، ولم يؤثر عن أحد منهم ذلك بل صح عنهم ضده:روى أحمد وأبو داود والترمذي- وقال حديث حسن- عن عائشة قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كل مسكر حرام وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام »1 الفرق بفتح الراء وسكونها مكيال يسع ستة عشر رطلا .وقيل إن ساكن الراء مكيال آخر يسع 120رطلا .ورواة هذا الحديث كلهم محتج بهم في الصحيحين إلا أبو عثمان عمر- أو عمرو – ابن سالم قاضي مرو التابعي فهو مقبول كما قال الحافظ في تقريب التهذيب ، ونقل في أصله توثيقه عن أبي داود وابن حبان وروى أحمد وابن ماجه والدارقطني وصححه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«ما أسكر كثيره فقليله حرام »{[842]} وروى مثله أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث جابر .قال الحافظ ابن حجر رواته ثقات ، وفي إسناده داود بن بكر بن أبي الفرات قال في التقريب صدوق .ولكن قال أبو حاتم الرازي:لا بأس به ليس بالمتين .وسئل عنه ابن معين فقال ثقة .
وروى النسائي والدارقطني عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم «أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره »{[843]} وفي رواية أخرى:أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قليل ما أسكر كثيره وأكثر رجال هذا الحديث قد احتج بهم البخاري ومسلم في الصحيحين ، وفيهم الضحاك بن عثمان احتج به مسلم في صحيحه ، فلم يبق إلا شيخ النسائي محمد بن عبد الله بن عمار نزيل الموصل .قال الحافظ في تقريب التهذيب:ثقة حافظ ، فهذا حديث صحيح لا معطن فيه .ولا عبرة بما يوهمه كلام مثل العيني في هذا المقام .فتحريم قليل كل مسكر وكثيره صح في عدة أحاديث وثبت بالإجماع .
قال الحافظ النسائي بعد رواية حديث سعد وما في معناه:وفي هذا دليل على تحريم المسكر قليله وكثيره وليس كما يقول المخادعون لأنفسهم بتحليلهم آخر الشربة وتحليلهم ما تقدمها الذي يشرب في الفرق قبلها ، ولا خلاف بين أهل العلم أن السكر بكليته لا يحدث على الشربة الآخرة دون الأولى والثانية بعدها ، وبالله التوفيق اه .أي أن السكر يكون من مجموع ما يشرب لا من الشربة التي تعقبها النشوة .
/خ93