{ ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} أي ذلك الذي ذكر من إتيان الرسل يقصون على الأمم آيات الله تعالى في الإصلاح الروحي والاجتماعي وينذرونهم يوم الحشر والجزاء بسبب أن ربك أيها الرسول المبعوث بالإصلاح الأكمل لبقية الأمم كلها لم يكن من شأنه ولا من سننه في تربية خلقه أن يهلك القرى أي الأمم بعذاب الاستئصال الذي أوعد به مكذبي الرسل ولا بعذاب فقد الاستقلال الذي أوعد به مخالفي هدايتهم بظلم منه لهم أو بظلم منهم وهم غافلون عما يجب عليهم أن يتقوا به هذا الهلاك ، بل يتقدم هلاك كل أمة إرسال رسول يبلغها ما يجب أن تكون عليه من الصلاح والحق والعدل والفضائل بما يقصه عليها من آيات الوحي في عصره ، أو بما ينقل إليها من يبلغونها دعوته من بعده ، فإنما العبرة بالدعوة التي تنبه أهل الغفلة فلا يكون أخذهم على غرة ، ذلك بأن من حكمة الله تعالى في الأمم جعل جميع ما ينزل بهم من عقاب جزاء على عمل استحقوه به فيكون عقابهم تربية لمن يسلم منهم ولكل من عرف سنة الله في ذلك ، ولهذا عبر بلفظ الرب ، ومنه يعلم أن له تعالى الحجة البالغة على خلقه بأنه لا يظلمهم شيئا وإنما هم الذين يظلمون أنفسهم .وإن الإهلاك والتعذيب ليس صفة من صفاته النفسية التي لا بد من وقوع متعلقها سواء أذنب المكلفون أم لم يذنبوا ، بل هو من أفعاله التي يربي بها عباده .
أشرنا إلى أن قوله"بظلم "فيه وجهان للمفسرين بيناهما بما رأيت وقد سبق إلى ذلك شيخهم ابن جرير الطبري ولخص قوله الحافظ ابن كثير وشايعه عليه قال:قال الإمام أبو جعفر ابن جرير:ويحتمل قوله تعالى: "بظلم "وجهين أحدهما ذلك من أجل أن لم يكن ربك ليهلك القرى بظلم أهلها بالشرك ونحوه وهم غافلون .يقول:لم يكن يعاجلهم بالعقوبة حتى يبعث إليهم من ينبههم على حجج الله عليهم وينذرهم عذاب الله يوم معادهم ولم يكن بالذي يأخذهم غفلة فيقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير ، والوجه الثاني:ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم:يقول لم يكن ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرسل والآيات والعبر فيظلمهم بذلك والله غير ظلام للعبيد .ثم شرع يرجح الوجه الأول ولا شك أنه أقوى والله أعلم اه
ونقول إن كلا من المعنيين صحيح في نفسه ومذهبنا أنه لا مانع من إرادة الله تعالى لكل ما يحتمله نظم كتابه من معنى صحيح .وقد ورد في هذا الموضوع عدة آيات منها ما هو نص في إهلاك القرى بظلمها ومنها ما هو بيان لسنته تعالى في ذلك كهذه الآية .ومن الأول قوله تعالى في سورة هود:{ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة أن أخذه أليم شديد} ( هود 103 ) ومن الثاني قوله فيها{ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون} ( هود 118 ) وقد جزم بعضهم بأن المراد بالظلم هنا الشرك واستدلوا عليه بما صح مرفوعا من تفسيره به في معنى قوله تعالى:{ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} ( الأنعام 83 ) الآية واستشهاد الحديث على ذلك بقول لقمان الذي حكاه الله عنه{ إن الشرك لظلم عظيم} ( لقمان 13 ) وقد بينا في تفسير تلك الآية أن الظلم إنما صلح تفسيره فيها بالشرك الذي هو أعظم الظلم وهو نكرة في سياق النفي لأنه وارد في الظلم الذي يلبس به الإيمان فصح فيه العموم المقيد الذي ورد فيه لأن قليل الشرك يفسد الإيمان ككثيره .
وأما الظلم في الآية التي نفسرها الآن وفي آية هود المماثلة لها فقد ورد نكرة في سياق النفي في مقام بيان سبب إهلاك القرى فيجب أن يكون العموم فيه مطلقا لما ثبت في الآيات الأخرى المؤيدة بوقائع التاريخ من هلاك الأمم بالظلم في الأعمال والأحكام ، وبقائها زمنا طويلا مع الشرك إذا كانت مصلحة فيهما كما هو ظاهر آية هود .ولله در الحافظ ابن كثير فإنه نقل عبارة الإمام ابن جرير بالمعنى فقال في الوجه الأول:بالشرك ونحوه أي وما يشبهه من الظلم في الأعمال والأحكام فأشار إلى العموم ، وعبارة ابن جرير:بشرك من أشرك وكفر من كفر من أهلها كما قال لقمان{ إن الشرك لظلم عظيم} وهي تنافي صيغة العموم وسبحان من لا يخطئ ولا يعزب عن علمه شيء .
هذا وإننا قد فصلنا من قبل ما ذكرناه آنفا بالإجمال من أن عقاب الله تعالى للأمم وكذا الأفراد في الدنيا والآخرة أنواع وأن منه ما يسمى عذاب الاستئصال لمن عاندوا الرسل بعد أن جاءوهم بما اقترحوا عليهم من الآيات الكونية وأنذروهم الهلاك إذا لم يؤمنوا بعد تأييد الله إياهم بها كعاد وثمود وقوم لوط فسنة الله في ذلك خاصة وقد انقطعت بانقطاع إرسال الرسل إذ ليست جارية على سائر سنن الاجتماع .ومنه هلاك الأمم بما يغلب عليها من الظلم أو الفسق والفجور الذي يفسد الأخلاق ويقطع روابط الاجتماع ويجعل بأس الأمة بينها شديدا فيكون ذلك سببا اجتماعيا لسلب استقلالها وذهاب ملكها بحسب سنن الاجتماع ، وقد أنذرنا الله هذا في كتابه وعلى لسان رسوله كما شرحناه من قبل ، فيراجع تفصيل ذلك فيما مضى من التفسير .
ثم إن هذه الآية وما في معناها من الآيات كآية هود من قواعد علم الاجتماع البشري الذي لا يزال في طور الوضع والتدوين وهو العلم بسنن الله تعالى في قوة الأمم والشعوب وضعفها وعزها وذلها وغناها وفقرها وبداوتها وحضارتها وأعمالها ونحو ذلك .وفائدة هذا العلم في الأمم كفائدة علم النحو والبيان في حفظ اللغة ، وفي القرآن الحكيم أهم قواعده وأصوله وقد سبق بعض الحكماء المسلمين إلى بيان بعضها ، وبدأ ابن خلدون بجعله علما مدونا يرتقي بالتدريج كغيره من العلوم والفنون ، ولكن استفاد غير المسلمين مما كتبه في ذلك وبنوا عليه ووسعوه فكان من العلوم التي سادوا بها على المسلمين الذين لم يستفيدوا منه كما كان يجب ، لأنه كتب في طور تدليهم وانحطاطهم ، بل لم يستفيدوا من هداية القرآن العليا في إقامة أمر ملكهم وحضارتهم على ما أرشدهم إليه من القواعد وسنن الله تعالى فيمن قبلهم .ولا يزالون معرضين عن هذا الرشد والهداية على شدة حاجتهم إليها بسبب ما وصل إليه تنازع البقاء بين الأمم في هذا العصر وإنا نرى بعضهم يعزي نفسه عن ضعف أمته ويعتذر عن تقصيرها بالقدر الذي يفهمه مقلوبا بمعنى الجبر أو يسليها بأن هذا من علامات الساعة ، وارتكس بعضهم في حمأة جهله بالإسلام حتى ارتدوا عنه سرا أو جهرا زاعمين أن تعاليمه هي التي أضعفتهم وأضاعت عليهم ملكهم ، والتمسوا هداية غير هدايته ليقيموا بها دنياهم ، فخسروا الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين .