{ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ} أي ولكل من معشري الجن والإنس الذين بلغتهم دعوة الرسل درجات ومنازل من جزاء أعمالهم تتفاوت بتفاوتهم فيها{ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} بل هو عالم به ومحصيه عليهم ، فجزاء سيئة سيئة مثلها ، ويضاعف الله الحسنات دون السيئات ، لأن الفضل ما كان فوق العدل .فإن أريد بكل من الفريقين آخر من ذكر منهم وهم الكافرونعلى ما هو الأكثر في الاستعمالفالدرجات بمعنى الدركات كالدرج والدرك ، والأصل في الأول أن يستعمل في الخير وجزائه والثاني في مقابله ومنه{ إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} ( النساء 145 ) والراغب يفرق بينهما بأن الدرج يقال باعتبار الصعود والدرك باعتبار الحدور والهبوط .وجمهور المفسرين جعلوا كلا هنا عاما لفريقي المؤمنين والكافرين فيكون استعمال الدرجات من باب تغليب المؤمنين .وشذ من قال إن مسلمي الجن لا يدخلون الجنة إذ ليس لهم ثواب وأشد منه شذوذا من زعم أنهم لا يدخلون الجنة ولا النار ، نقل ذلك السيوطي عن ليث بن أبي سليم وهو مخالف لنصوص القرآن وليث هذا مضطرب الحديث وإن روى عنه مسلم وقد اختلط عقله في آخر عمره ولعله قال هذا القول وغيره مما أنكر عليه بعد اختلاطه .
هذا وإننا وإن بينا أن هذه الآية مبطلة للقول بالجبر الباطل الهادم لشرائع والأديان ، الذي ألبسوه ثوب القدر الثابت بالعلم المؤيد للقرآن ، فإننا نرى أن نصرح بأن الفخر الرازي عفا الله عنه قد صرح في تفسيرها بأنها تدل على الجبر وأن نذكر عبارته بنصها ونبين بطلانها وإن سبق لنا مثل ذلك في غيرها حتى لا يغتر بها من ينخدع بلقبه وكبر شهرته قال:
"اعلم أن هذه الآية تدل أيضا على صحة قولنا في مسألة الجبر والقدر وذلك لأنه تعالى حكم لكل واحد في وقت معين بحسب فعل معين بدرجة معينة وعلم تلك الدرجة بعينها تلك الدرجة المعينة في اللوح المحفوظ وأشهد عليه زمرة الملائكة المقربين فلو لم تحصل تلك الدرجة لذلك الإنسان لبطل ذلك الحكم ولصار ذلك العلم جهلا ولصار ذلك الإشهاد كذبا وكل ذلك محال ، فثبت أن لكل درجات مما عملوا{ وما ربك بغافل عما يعملون} وإذا كان الأمر كذلك فقد جف القلم بما هو كائن على يوم القيامة والسعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقى في بطن أمه ) اه
ونقول إن حكم الله تعالى القدري لا يمكن أن يكون ناقصا ومبطلا لحكمه الشرعي ومكذبا لوحيه ، وقد قال تعالى إن الدرجات تكون للمكلفين بأعمالهم وإذا كان الرازي قد صرح بأنه تعالى:قد حكم لكل واحد في وقت معين بحسب فعل معين بدرجة معينة "الخ فمن أين علم أنه قد جعله مجبورا على هذا الفعل وهو يجد في نفسه أنه مختار ، والقرآن قد صدق الوجدان بإثبات المشيئة والإرادة للإنسان ، ونوط مشيئته بمشيئة الله معناه أنه تعالى شاء أن يكون فاعلا بالإرادة والاختيار ولو لم يشأ ذلك لم يكن ولكنه شاءه فكان ، وعلم ذلك وكتبه ورتب عليه دينه وشرعه .