/م133
ثم إنه تعالى بعد أن أنذرهم عذاب الدنيا وهلاكهم فيها أنذرهم عذاب الآخرة بقوله:{ إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ} على سنة القرآن في الجمع بينهما ، أي إنما توعدون من جزاء الآخرة بعد البعث لآت لا مرد له وما أنتم بمعجزين لله بهرب ولا منع مما يريد فهو قادر على إعادتكم كما قدر على بدء خلقكم .وهذا برهان جلي كرر في القرآن مرارا .وقد قرب العلم في هذا العصر أمر البعث من العقول ، بما قرره من كون كل ما في العالم ثابت أصله لا يزول وإنما هلاك الأشياء وفناؤها عبارة عن تحلل موادها وتفرقها ، وبما أثبته من تركيب المواد المتفرقة وإرجاعها إلى تركيبها الأول في غير الأحياء ، بل تصدى بعض علماء الألمان لإيجاد البشر بطريقة علمية صناعية بتنمية البذرة التي يولد منها الإنسان إلى أن صارت علقة فمضغة وزعم أنه يمكن باتخاذ وسائل أخرى لتغذية المضغة في حرارة كحرارة الرحم أن تتولد فيها الأعضاء حتى تكون إنسانا تاما ، وقد بين تجربته في ذلك وما ارتآه من النظريات لإتمام العمل بإيجاد معامل لإيجاد الناس كعامل التفريخ لإيجاد الدجاج في خطاب قرأه على طائفة من أشهر الأطباء وعلماء الكون فأعجبوا بنظرياته ، ولم ينكر أحد منهم إمكان ذلك وإنما ينكر الكثيرون وصول العلم البشري إلى إخراجه من حيز الإمكان إلى حيز الوجود بالفعل ، وأن المخترع الشهير أديسون أكبر علماء الكهرباء يحاول اختراع آلة كهربائية لأجل اتصال الناس بأرواح من يموت واستفادتهم منهم إن كان ذلك مما تعنى الأرواح به بعد الموت ، فيكون هذا هو الذي يبين حقيقة ما يدعيه الروحيون من رؤية من يسمونهم الوسطاء للأرواح وتجسدها وتلقيهم عنها هل هو صحيح كما يقولون أو خداع كما يقول المنكرون عليهم{[1023]} وغرضنا من ذكر هذا أن أمثال هذا العالم المخترع الكبير يرى أن ذلك جائز ممكن وإن لم يثبت عنده أنه وقع بالفعل .فأين هذا ممن يكفرون بالبعث تقليدا لأمثال هؤلاء لظنهم أنهم يعدون هذا محالا لا يمكن تحققه ، وإذا كان هذا جائزا ويرى أكبر علماء المادة أنه يمكن وصولهم إليه فعلا فهل يعجز عنه خالق البشر وكل شيء{ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ؛ ألا إنه بكل شيء محيط} ( فصلت 53- 54 ) .
هذا وإن كان ( توعدون ) مضارع مجهول لوعد الثلاثي الذي غلب استعماله في الخير والنفع وهو في أصل اللغة وفي استعمال القرآن شامل لهما –ولأوعد الرباعي الخاص استعماله في الشر أو الضر ، ورجح الثاني في الآية لأن الخطاب في إنذار الكافرين ونفي الإعجاز فيه للتهديد ، وهو ظاهر ما جرى عليه جمهور المفسرين .
قال الرازي وفيه احتمال آخر وهو أن الوعد مخصوص بالإخبار عن الثواب وأما الوعيد فهو مخصوص بالإخبار عن العقاب فقوله:{ إنما توعدون لآت} يعني كل ما تعلق بالوعد والثواب فهو آت لا محالة فتخصيص الوعد بهذا الجزم يدل على أن جانب الوعد ليس كذلك .ويقوي هذا الوجه آخر الآية وهو أنه قال:{ وما أنتم بمعجزين} يعني لا تخرجون عن قدرتنا وحكمنا .فالحاصل أنه لما ذكر الوعد جزم بكونه آتيا ، ولما ذكر الوعيد ما زاد على قوله{ وما أنتم بمعجزين} وذلك يدل على أن جانب الرحمة والإحسان غالب اه .
ونقول:إن هذا يصلح أن يكون من الأوجه التي أوردها العلامة ابن القيم في ترجيح فناء النار ولكننا نراه ضعيفا وإن كنا نقول بأن جانب الرحمة والإحسان سابق وغالب في أفعال الله تعالى في الدنيا والآخرة ، ووجه ضعفه أن المقام مقام الوعيد والتهديد للكفار وأن اللفظ ليس نصا في الوعيد كما أن الوعد ليس خاصا بالثواب كما تقدم ومن استعماله في العقاب قوله تعالى:{ قل أفأنبئكم بشر من ذلكم ؟ النار وعدها الله الذين كفروا} ( الحج 72 ) وقوله{ ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده} ( الحج 47} .