/م133
وقد ختم الله هذا الوعيد والتهديد بقوله لرسوله{ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} .في هذا النداء ضرب في الاستمالة للكفار الذين خوطبوا بالدعوة أولا بما يذكرهم بأنهم قوم الرسول الذين يحبهم ويحرص على خيرهم ومنفعتهم بباعث الفطرة والتربية والمنافع المشتركة وقد كانت النعرة القومية عند العرب أقوى منها عند المعروف حالهم اليوم من سائر الأمم فكان نداؤهم بقوله: "يا قوم "جديرا بأن يحرك هذه العاطفة في قلوبهم فتحمل المستعد على الإصغاء لما يقول والتأمل فيه ، وقد أمر الله تعالى رسوله بمثل هذا في آخر سورة هود وأواسط سورة الزمر وحكى مثله عن شعيب عليهما السلام .والمكانة في اللغة حسية وهي المكان الذي يتبوأه الإنسان ومعنوية وهي الحال النفسية أو الاجتماعية التي يكون فيها .والمعنى اعملوا على مكانتهم وشاكلتكم التي أنتم عليها ، إني عامل على مكانتي وشاكلتي التي هداني ربي إليها وأقامني فيها ، فسوف تعلمون بعد حين من تكون له العاقبة الحسنى في هذه الدار بتأثير عمله .نبههم بذلك إلى الاستدلال العلمي الاجتماعي في ترتب أحوال الأمم على أعمالها المنبعثة على عقائدها وصفاتها النفسية ليستدلوا به ، ثم صرح لهم بما يرشدهم على تلك العاقبة كما سنفصله .
وقال الزمخشري في الكشاف:المكانة تكون مصدرا يقال مكن مكانة إذ تمكن أبلغ التمكن وبمعنى المكان يقال مكان ومكانة ومقام ومقامة .وقوله:{ اعملوا على مكانتهم} يحتمل اعملوا على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم أو اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها ، يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حاله:على مكانتك يا فلان:أي اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه ( إني عامل ) على مكانتي التي أنا عليها المعنى اثبتوا على كفركم وعداوتكم فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم{ فسوف تعلمون} أينا تكون له العاقبة المحمودة .وطريقة هذا الأمر طريقة قوله:{ اعموا ما شئتم} ( فصلت 40 ) وهي التخلية والتسجيل على المأمور بأنه لا يأتي منه الشر فكأنه مأمور به وهو واجب عليه حتم ليس له أن يتفصى عنه ويعمل بخلافه اه .
وقد أشار فيه إلى ترجيح كون قوله تعالى:{ من تكون له عاقبة الدار} استفهام كقوله:{ لنعلم أي الحزبين أحصى} ( الكهف 12 ) الخ ثم بينه وذكر فيه وجها آخر وهو أن"من "بمعنى الذي أي فسوف تعرفون الفريق الذي تكون له العاقبة الحسنى التي خلق الله هذه الدار ( الدنيا ) لها .قال:وهذا طريق من الإنذار لطيف المسلك فيه إنصاف في المقال وأدب حسن مع تضمن شدة الوعيد والوثوق بأن المنذر ( بكسر الذال ) محق والمنذر ( بفتح الذال ) مبطل اه .
وأقول:إن غاية هذا الإنذار وروحه الإحالة على المستقبل في صدق وعد الله لرسوله بنصره ووعيده لأعدائه بقهرهم في الدنيا إذ كان هذا شيء لا بد أن يراه جمهور المخاطبين بأعينهم فيكون حجة على صدق وعده ووعيده في أمر الآخرة إذ لا فرق بينهما في كون الإخبار بهما من الإنباء بالغيب ولا في السبب الذي لأجله كانت عاقبة الرسول ومن اتبعه هي الحسنى في الدنيا والآخرة وجعل عاقبة من كفر به وناوأه هي السوءى .وقد أشار إلى هذا السبب بفاصلة الآية{ إنه لا يفلح الظالمون} أي لأنفسهم بالكفر بنعم الله واتخاذ الشركاء له في ألوهيته بالتوجه إليهم فيما يتقرب به إليه تعالى أو فيما لا يطلب إلا منه وهو كل ما أعيت المرء أسبابه أو كانت مجهولة عنده فيجب أن يتوجه إليه ويدعي في هذا وحده .وأما ما عرف سببه فيطلب من طريق السبب مع العلم بأن خالق الأسباب ومسخرها هو الله خالق كل شيء{ إن الشرك لظلم عظيم} ( لقمان 13 ) فهذا شر الظلم وأشده إفسادا للعقول والآداب والأعمال فيلزمه إذا سائر أنواع الظلم أنواع الظلم الحقيقي والإضافي .
وقد تقدم شرح هذا المعنى في تفسير{ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} ( الأنعام 82 ) من هذه السورة ، وإذا كان فلاح الظالمين لأنفسهم وللناس بالأولى منتفيا بشرع الله وسنته العادلة انحصر الفلاح والفوز في أهل الحق والعدل الذين يقومون بحقوق الله وحقوق أنفسهم ومن يرتبط معهم في شؤون الحياة وهذا لا يكمل إلا لرسل الله وجندهم من المؤمنين الصالحين .ألم تر كيف نصر الله رسوله على الظالمين من قومه أولا كأكابر مجرمي مكة المستهزئين به ؟ ثم على سائر مشركي العرب ثم نصر أصحابه على أعظم أمم الأرض وأقواها جندا وأعظمها ملكا وأرقاها نظاما كالرومان والفرس ؟ ثم نصر من بعدهم من المسلمين من كل أمة وشعب على من ناوأهم وقاتلهم من أهل الشرق والغرب في الحروب الصليبية والفتوح العثمانية وغيرها بقدر حظهم من اتباع ما جاء به من الحق والعدل .
فلما ظلموا أنفسهم وظلموا الناس وصار حظهم من هداية دينهم نحوا مما كان من حظ أهل الكتاب قبلهم من هداية رسلهم أو أقل لم يعد لهم مزية ثابتة في هذا السبب المعنوي للنصر والفلاح بل انحصر الفوز في الأسباب المادية والفنية ، وسائر الأسباب المعنوية ، كالصبر والثبات والعدل والنظام ونرى كثيرا من الجاهلين بالإسلام يقولون ما بال المسلمين قد أضاعوا ملكهم إذ كان الله قد وعد بنصرهم ؟ وجوابه أن الله تعالى لم يعد قط بنصر من يسمون مسلمين كيفما كانت حالهم ، وإنما وعد بنصر من ينصره ويقيم ما شرعه من الحق والعدل وبإهلاك الظالمين مهما تكن أسمائهم وألقابهم إذا نازعهم البقاء من هم أقرب إلى الحق والعدل أو النظام منهم{ فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم} ( إبراهيم 13- 14 ) وقد سبق تفصيل لهذا البحث غير مرة .
قرأ أبو بكر عن عاصم"مكاناتكم "بالجمع في كل القرآن والباقون بالإفراد والأصل في المكانة ألا تجمع لأنها مصدر ونكتة جمعها في هذه القراءة إفادة أن للكفار مكانات متفاوتة ، لتعدد الباطل ووحدة الحق ، وقرأ حمزة والكسائي"من يكون له عاقبة الدار "بالتحتية والباقون"تكون "بالفوقية وذلك أن تأنيث العاقبة لفظي غير حقيقي وقد فصل بينه وبن العامل فحسن تذكير الفعل كتأنيثه وفي حال الفصل يجوز تذكير العامل وإن كان المعمول مؤنثا حقيقيا .
ومن مباحث البلاغة اقتران سوف بالفاء هنا وفي سورة الزمر لأنها في جواب الشرط الذي يقتضيه المقام وتركت الفاء في آية هود ( 11:93 ) لأنها في جواب شعب لقومه عن قولهم:{ ما نفقه كثيرا مما تقول} الخ فهو إخبار لهم بأنهم سوف يعلمون عاقبة ما قالوا أنهم لا يفقهونه اه ملخصا من درة التنزيل .