بعد محاجة مشركي مكة وسائر العرب فيما تقدم من أصول الدين وآخرها البعث والجزاء ذكر بعض عبادتهم الشركية في الحرث والأنعام وقتل الأولاد والتحليل والتحريم بباعث الأهواء النفسية والخرافات الوثنية ، فقال:{ وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا} أي وكان من أمرهم في ضلالتهم العملية أن جعلوا لله نصيبا مما ذرأ وخلق لهم من ثمر الزرع وغلته كالتمر والحبوب ونتاج الأنعام ونصيبا لمن أشركوا معه من الأوثان والأصنام وقد حذف ذكر هذا النصيب إيجاز لدلالة ما بعده عليه وهو قوله تعالى:{ فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا} أي فقالوا في الأول هذا لله أي نتقرب به إليه وفي الثاني هذا لشركائنا أي معبوداتهم يتقربون به إليها ، وقوله في الأول بزعمهم معناه بتقولهم ووضعهم الذي لا علم لهم به ولا هدى من الله لأن جعله قربة لله يجب أن لا يشرك معه غيره فمثله وأن يكون بإذن منه تعالى لأنه دين وإنما الدين لله ومن الله وحده ؟ وأما كونه لله خلقا وملكا فغير مراد في هذه القسمة فإن له تعالى كل شيء لأنه خالق كل شيء لا شريك له في الخلق ، وهذا لا خلاف فيه بينهم وبين المؤمنين وإنما الخلاف في التقرب إلى غيره تعالى بمثل ما يتقرب به إليه من دعاء وصدقة وذبائح نسك ، وأن يطاع غيره طاعة خضوع في التحليل والتحريم لذاته بغير إذن منه تعالى وغير ذلك ، فهذا شرك جلي ، ومنه هذه القسمة بين الله تعالى وبين ما أشركوا معه .
روي أنهم كانوا يجعلون نصيب الله تعالى لقرى الضيفان وإكرام الصبيان والتصدق على المساكين ونصيب آلهتهم لسدتنا وقرابينها وما ينفق على معاهدها ، فإن قيل لمَ قرن الأول بالزعم الذي يعبر به عن قول الكذب والباطل على ما فيه من البر والخير دون الثاني الذي هو شر محض وباطل بحت وبه كان الأول شركا في القسمة ودون جعله لكل منهما ؟ نقول إن الأول وحده هو الذي يمكن أن يستحسنه المؤمن أو العاقل وإن لم يكن مؤمنا فاحتيج إلى قرنه بكونه زعما مخترعا لهم لا دينا مشترعا لله تعالى فكان بهذا باطلا في نفسه فوق كونه مقرونا بالشرك إذ جعلوا مثله لما اتخذوا لله من الأنداد مع أحكام أخرى لهم فيه فصلها بقوله:
{ فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ} أي فما كان منه للتقرب إلى شركائهم التي جعلوها لله فلا يصل إلى الوجوه التي جعلوها لله لا بالتصدق ولا بالضيافة ولا غيرهما بل يعنون بحفظه لها بإنفاقه على سدنتها وذبح النسائك عندها ونحو ذلك{ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ} أي وما جعلوه لله فهو يحول أحيانا إلى التقرب به إليها فيما ذكر آنفا وفي غيره مما سيأتي{ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} أي قبح حكمهم هذا أو ما يحكمون به .وقبحه من وجوه منها أنه اعتداء على الله بالتشريع ، ومنها الشرك في عبادته ولا يجوز أن يكون لغير الله أدنى نصيب مما يتقرب به إليه ، ومنها ترجيح ما جعلوه لشركائهم على ما جعلوه لخالقها فيما فصل آنفا وهو أدنى الوجوه الثلاثة المحتملة في القسمة ، والثاني المساواة بين ما لشركائهم وما لله سبحانه ، والثالث ترجيح ما لله تعالى .ومنها أن هذا الحكم لا مستند له من العقل ، كما أنه لا هداية فيه من الشرع ، وهذا مما يستدل به عل أن العقول تدرك حسن الأحكام وقبحها ويحتج بها فيها .ولما كان مورد هذا هو الرواية وقد روي عنهم سخافات أخرى في هذه القسمة الجائرة اخترنا أن ننقل ما أورده الحافظ ابن كثير في تفسير الآية قال:
قال علي بن أبي طلحة والعوفي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثا أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله منه جزءا وللوثن جزءا فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه وإن سقط منه شيء فيما سمي للصمد ، ردوه إلى ما جعلوه للوثن وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن فسقى شيئا جعلوه ذلك للوثن ، وإن سقط شيء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا هذا فقير ولم يردوه إلى ما جعلوه لله ، وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله فسقى ما سمي للوثن تركوه للوثن .وكانوا يحرمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي فيجعلونه للأوثان ويزعمون أنهم يحرمونه قربة لله فقال الله تعالى:{ وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا} الآية .
وهكذا قال مجاهد وقتادة والسدي وغير واحد ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في الآية:كل شيء يجعلونه لله من ذبح يذبحونه لا يأكلونه أبدا حتى يذكروا معه أسماء الآلهة وما كان للآلهة لم يذكروا اسم الله معه ، وقرأ الآية حتى بلغ{ ساء ما يحكمون} أي ساء ما يقسمون لأنهم أخطأوا أولا في القسم لأن الله تعالى هو رب كل شيء ومليكه وخالقه وهو الملك وكل شيء له وفي تصرفه وتحت قدرته ومشيته لا إله غيره ولا رب سواه ، ثم لما قسموا فيما زعموا القسمة الفاسدة لم يحفظوها بل جاروا فيها كقوله جل وعلا:{ ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون} ( النحل 57 ) وقال تعالى:{ وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين} ( الزخرف 15 ) وقال تعالى:{ ألكم الذكر وله الأنثى ؟ تلك إذا قسمة ضيزى} ( النجم 21- 22 ) اه .