{ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} هذا حكم آخر مما كانوا عليه من أعمال الشرك التي لا يستحسنها عقل سليم ، ولم تستند إلى شرع إلهي قويم ، أي ومثل ذلك التزيين لقسمة القرابين من الحرث والأنعام بين الله تعالى وبين آلهتهم زين لكثير من المشركين شركاؤهم قتل أولادهم .فأما الشركاء هنا فقيل هم سدنة الآلهة وخدمها وقيل بل هم الشياطين الذين يوسوسون لهم ما يزين ذلك في أنفسهم وإنما سمي كل منهما شريكا لأنه يطاع ويدان له فيما لا يطاع به إلا الله تعالى ولهذا التزيين وجوه:
أحدهما:اتقاء الفقر الواقع أو المتوقع فالأول هو ما بينه الله تعالى بقوله:{ ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم} ( الأنعام 151 ) والثاني:ما بينه بقوله:{ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم} ( الإسراء 31 ) وقدم في الأول رزق الوالدين على رزق الأولاد لأن الولد الصغير تابع لوالده في الرزق الحال ، وقدم في الثاني رزق الأولاد على رزق الوالدين لتعلقه بالمستقبل وكثيرا ما يعجز فيه الآباء عن كسب الرزق ويحتاجون إلى إنفاق أولادهم عليهم .
والوجه الثاني:اتقاء العار وهو خاص بوأد البنات أي دفنهن حيات خشية أن يكن سببا للعار إذا كبرن ، فهم يصورون البنت لوالدها الجبار العاتي ترتكب الفاحشة ، أو تقترن بزوج دونه في الشرف والكرامة فتلحقه الخسة ، أو تسئ في القتال .
والوجه الثالث:التدين بنحر الأولاد للآلهة تقربا إليها بنذر أو بغير نذر ، وكان الرجل ينذر في الجاهلية لئن ولد له كذا غلاما لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب وخبره معروف يذكر في قصص المولد النبوي .ولولا الشرك الذي يفسد العقول لما راجت هذه الوسوسة عندهم ولذلك عبر عنهم هنا بوصف ( المشركين ) في مقام الإضمار لأن الكلام السابق فيهم .وسمى المزينين لهم ذلك من شياطين الإنس كالسدنة أو الجن شركاء وإن لم يسموهم هم آلهة أو شركاء لأنهم أطاعوهم طاعة إذعان ديني في التحليل والتحريم ، وهو خاص بالرب المعبود ، كما ورد مرفوعا في تفسير{ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} ( التوبة 31 ) فإن مقتضى الفعل الإذعاني أقوى دلالة من مدلول القول اللساني لكثرة الكذب في هذا دون ذاك ، وإننا نرى كثيرا من الذين يدعون التوحيد يدعون غير الله تعالى من الموتى تضرعا وخفية خاشعين عند قبورهم باكين متضرعين ويتقربون إليهم بالصدقات وذبائح النسك منذورة أو غير منذورة ولكنهم لا يسمونهم شركاء لله ولا يسمون عبادتهم هذه شركا ولا عبادة وقد يسمونها توسلا .والأسماء لا تغير الحقائق والأفعال ، ومنها الأقوال كالدعاء أدل على الحقائق من التسمية الاصطلاحية والتأويلات الجدلية فهذه الأفعال عبادة لغير الله حقيقة لغة وشرعا لا مجازا .
وقرأ ابن عامر ( زين ) بالبناء للمفعول الذي هو ( قتل ) ونصب{ أولادهم} مفعولا للقتل وجر الشركاء بإضافة القتل إليه مع الفصل بينهما بمفعوله ، وهو غير فصيح في عرف النحاة وإن أجازوه حتى في غير الشعر ، ولذلك أنكر القراءة الزمخشري وغلط ابن عامر لظنه أنه استنبطها من كتابة بعض المصاحف وانتصر لها ابن مالك في الألفية وشنعوا على الزمخشري في إنكارها وكادوا يكفرونه به ولكن سبقه به إمام المفسرين ابن جرير الطبري والقرآن في جميع رواياته الثابتة بالتواتر حجة على كل أحد وقد تكون القراءة فصيحة على لغة القبيلة التي وردت ببيان عملها وإن لم تكن فصيحة عند من راعى جمهور النحاة لغاتهم في القواعد ، وقد يكون ورود القراءة بغير الشائع في الاستعمال وهو ما يسميه النحاة الشاذ لنكتة تجعلها من البلاغة بمكان ، كإفادة معنى جديد مع منتهى الإيجاز ، كما يدل عليه معنى هذه القراءة وكثير من القراءات .معناها زين لكثير من المشركين قتل شركائهم لأولادهم أي استحسنوا ما توسوسه شياطين الإنس من سدنة الأصنام وشياطين الجن من قتل الأولاد فكأن هؤلاء الشركاء هم الذين قتلوهم ، ففائدة هذه القراءة إذا تذكير أولئك السفهاء بقبح طاعة أولئك الشركاء في أفظع الجرائم والجنايات وهو قتل الأولاد .
ثم علل هذا التزيين بقوله تعالى:{ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ} أي زينوا لهم هذه المنكرات ليردوهم أي يهلكوهم بالإغواء وهو إفساد الفطرة ، الذي يذهب بما أودع في قلوب الوالدين من عواطف الرأفة والرحمة .بل يقلبها على منتهى الوحشية والقسوة ، حتى ينحر الوالد ريحانه قلبه بمديته ، ويدفن بنته الضعيفة وهي حية بيده ، فهذا إرداء نفسي معنوي فوق الإرداء الحسي وهو القتل ، وتقليل النسل:وأما لبس دينهم عليهم فالمراد بالدين فيه ما كانوا يدعونه من دين إسماعيل وملة إبراهيم عليهما السلام ، وقد اشتبه واختلط عليهم بما ابتدعوه من هذه التقاليد الشركية حتى لم يعد يعرف الأصل الذي كان يتبع من هذه الإضافات الشركية التي لا تزال تبتدع ، فاللبس الخلط بين الشيئين أو الأشياء الذي يشتبه فيه بعضها ببعض ، وقيل إن المراد دينهم الذي وجب أن يكونوا عليه ، وقيل ليوقعوهم في دين ملتبس مشتبه لا تتجلى فيه حقيقة ، ولا تخلص فيه هداية .وهذا التعليل ظاهر على القول بأن الشركاء شياطين الجن وتزيينهم وسوستهم .وأما على القول بأن الشركاء هم سدنة الآلهة فاللام للعاقبة والصيرورة لأن السدنة لا تقصد الإرداء لهم ولبس الدين عليهم ، كذا قيل وهو ظاهر في الإرداء ، ولا يصح على إطلاقه في لبس الدين فإن كثيرا من السدنة والكهنة يقصدون العبث بدين من يتبعهم ويدين لهم التذاذا بطاعتهم واستعلاء بالرياسة فيهم .
قال تعالى:{ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} أي ولو شاء الله تعالى ألا يفعل الشركاء ذلك التزيين أو المشركون ذلك القتل لما فعلوه وذلك بأن يغير خلقهم وسننه الحكمية فيهم ولكنه أخبرنا بأنه لا تبديل لخلقه ولا لسننه ، أو بأن يخلق الناس من أول الأمر مطبوعين على عبادة الله تعالى طبعا لا يستطيعون غيره كالملائكة فلا يؤثر فيهم إغواء بل لا تتوجه إليهم وسوسة لعدم استعدادهم لقبولها ، ولكنه شاء أن يخلق الناس مستعدين للتأثر بكل ما يريد على أنفسهم من المعلومات الحسية والفكرية ولا اختيار ما يترجح في أنفسهم أنه خير لهم على ما يقابله ، ولأجل هذا يغلب على كل إنسان ما رسخ في نفسه بالتعليم والاستنباط وتأثير المعاشرة والاختلاط ، فيكون عليه اعتماده في ترجيح بعض الأعمال على بعض ، والناس متفاوتون في هذا استعدادا واستفادة فلا يمكن أن يكونوا على دين واحد أو رأي واحد ، فدع أيها الرسول هؤلاء المفترين على الله بانتحال ما لم يشرعه له وما يفترونه من العقائد والأعمال المستندة إليها وعليك بما أمرت به من التبليغ ، ولله تعالى سنن في الاهتداء لا تتغير ولا تتبدل ، فلا يحزنك أمرهم ، فإن من سنته أن يغلب حقك باطلهم .
هذا معنى الآية الموافق لكتاب الله ومقتضى صفاته وسننه في خلقه التي أخبر بأنها لا تبديل لها ولا تحويل ، وليس معناها أن مشيئة الله تعالى قد تعلقت بأن يقتل هؤلاء أولادهم تعلقا ابتدائيا بأن يكون أمرا خلقيا كدوران الدم في البدن لا اختيار لهم فيه ولا يستطيعون سبيلا إلى تركه ، كيف وقد وصفهم في الآية الآتية بأنهم يفعلونه سفها بغير علم وقد تركوا هذا السفه والجهل بهداية الإسلام ، فلا حجة في الآية للجبرية وإن لهج بها خواصهم وعوامهم بغير علم ولا فهم .