/م161
{ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هذا بيان إجمالي لتوحيد الإلهية بالعمل ، بعد بيان أصل التوحيد المجرد بالإيمان ، والمراد بالصلاة جنسها الشامل للمفروض والمستحب .والنسك في الأصل العبادة أو غايتها والناسك العابد ، ويكثر استعماله في القرآن والحديث في عبادة الحج وعبادة الذبائح والقرابين فيه أو مطلقا ، وفسر بالوجهين قوله تعالى في حكاية دعاء إبراهيم وإسماعيل{ وأرنا مناسكنا} ( البقرة 127 ) وأما قوله تعالى:{ فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آبائكم أو أشد ذكرا} ( البقرة 200 ) فلا خلاف في أن المراد به عبادات الحج كلها كما أن لا خلاف في تخصيص النسك ببعض الذبائح في قوله تعالى:{ ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} ( البقرة 196 ) فالنسك في هذه الفدية ذبح شاة وقوله تعالى في سورة الحج:{ ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام} ( الحج 34 ) .
قد عين السياق كون المراد بالنسك فيه القرابين التي تذبح أو تنحر تقربا إليه تعالى وبعد هذه الآية آيات أخرى في ذلك خاصة .وأما قوله بعد آيات أخرى منها:{ لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعك في الأمر وادع إلى ربك أنك لعلى هدى مستقيم} ( الحج 67 ) فالسياق يدل على أنه أعم ما ورد من هذا الحرف في القرآن وأنه بمعنى الدين أو الشريعة وهو ما قدمه بعضهم ولكن روي تفسيره في المأثور بالذبح وفسره بعضهم بالعيد .
وحقق ابن جرير أن الأصل فيه الموضع الذي يتردد إليه الناس لخير أو شر ومن هنا أطلق على مشاعر الحج ومعاهده وعلى المواضع التي كانوا يذبحون فيها للأصنام كالنصب .
وأما المأثور في تفسير"نسكي "هنا فعن سعيد بن جبير قال:ذبيحتي وعن قتادة ، حجي ومذبحي ، وفي رواية أخرى:ضحيتي ، وعن مجاهد:ذبيحتي في الحج والعمرة .وعن مقاتل:يعني الحج .ولا ينافي تفسيره بالذبيحة الدينية مطلقا سواء كانت فدية أو أضحية في الحج أو غيره قوله صلى الله عليه وسلم عند التضحية:{ إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين} ( الأنعام 79 ){ إن صلاتي ونسكي} إلى قوله{ أول المسلمين} ، الحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه من حديث جابر ومثله حديث عمران بن حصين عند الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة: "يا فاطمة قومي فاشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك بأول قطرة تقطر من دمها كل ذنب عملته وقولي:{ إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين} قلت يا رسول الله هذا لك ولأهل بيتك خاصة فأهل ذلك أنتم أم للمسلمين عامة ؟"بل للمسلمين عامة ".
وعلى هذا التفسير للنسك يكون الجمع بين الصلاة وذبح النسك كالأمر بهما في قوله تعالى:{ فصل لربك وانحر} ( الكوثر 2 ) وإذا فسر النسك بالعبادة مطلقا يكون عطفه على الصلاة من عطف العام على الخاص لأنها منه ، وإلا كان سبب الاقتصار عل ذكر هذين النوعين أو الثلاثة من العبادة هو كونها أعظم مظاهر العبادة التي فشا فيها الشرك ، فأما الصلاة فروحها الدعاء والتعظيم وتوجه القلب إلى المعبود والخوف منه والرجاء فيه وكل ذلك مما يقع فيه الشرك ممن يغلون في تعظيم الصالحين وما يذكر بهم كقبورهم أو صورهم وتماثيلهم ، وأما الحج والذبائح فالشرك فيهما أظهر وقلما يقع الشرك في الصيام لأنه أمر سلبي خفي ، ولكن بعض النصارى ابتدعوا صياما أضافوه إلى بعض مقدسيهم كصوم السيدة ولا أعلم أن أحدا من المسلمين اتبعهم فيه ولا ينافي هذا صدق الحديث الصحيح الوارد في اتباعهم سننهم شبرا بشبر وذراعا بذراع فإنه في الكليات دون الجزئيات .
وقد كانت الذبائح عند الوثنيين من العبادات يقربونها لآلهتهم ويهلون بها لهم ، ثم سرى ذلك إلى بعض أهل الكتاب فخرجوا بقرابينهم عما شرعت له من كفارة يتقرب بها إلى الله وحده ، فصاروا يهلون بها للأنبياء والصالحين ، وينذرونها لأولئك القديسين ، وذلك كله من عبادة الشرك فمن فعلها من المسلمون فله حكم من فعلها من أولئك المشركين كما تقدم تفصيله في تفسير{ ما أهل به لغير الله} ( البقرة 173 ) من هذه السورة وسورتي البقرة والمائدة وما تأويل بعض المعممين لهم إلا كتأويل من سبقهم من الرهبان والقسيسين:
وهل أفسد الدين إلا الملوك *** وأحبار سوء ورهبانها
والعبادات إنما تمتاز على العادات بالتوجه فيها إلى المعبود تقربا إليه وتعظيما له وطلبا لمثوبته ومرضاته ، وكل من يتوجه إليه المصلي أو الذابح بذلك ويقصد به تعظيمه فهو معبود له ، سواء عبر فاعله عن ذلك بقول يدل عليه أم لا ؟ فالعبادة لا تنبغي إلا لله رب العباد وخالقهم ، فإن توجه أحد إليه وإلى غيره من عباده المكرمين أو غيرهم مما يستعظم خلقه كان مشركا والله لا يقبل من العبادة إلا ما كان خالصا لوجهه الكريم .
إن كون الصلة والنسك لا يكونان في الدين الحق إلا خالصين لله وحده أمر ظاهر يعد من ضرورات الدين .وأما المحيا والممات فهما مصدران ميميان بمعنى الحياة والموت ، وزعم الرازي أن معنى كونهما مع الصلاة والنسك لله أنه هو الخالق لذلك وأن هذا دليل على قول أصحابه الأشعرية أن أفعال العباد مخلوقة لله وليس للعباد فيها تأثير .وهذا من أغرب ما انفرد به من السخف بعصبية المذهب مع الغفلة عن منافاة قوله:{ وبذلك أمرت} له وعن كونه ليس مما يختلف فيه المؤمن الموحد والمشرك فلا يصح أن يكون هو المراد في بيان تقرير حقيقة التوحيد .
والمتبادر أن معنى كون حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وموته وكذا من تأسى به لله وحده هو أنه قد وجه وجهه وحصر نيته وعزمه في حبس حياته لطاعته ومرضاته تعالى وبذلها في سبيله ليموت على ذلك كما يعيش عليه .وفي الكشاف أن معناه وما آتيه في حياتي وما أموت عليه من الإيمان والعمل الصالح كله لله رب العالمين .زاد البيضاوي:أو طاعات الحياة والخيرات المضافة إلى الممات كالوصية والتدبير{[1086]} أو الحياة والممات أنفسهما ا ه .ويزاد في الأعمال التي تضاف إلى الموت كل ما يبتدئ ثوابه به كالصدقة الجارية المعلقة على الموت وما يستمر بعده وإن وجد قبله كالصدقات الجارية المبتدأة في عهد الحياة والتصانيف التي ينتفع بها الناس .
وبهذا تكون الآية جامعة لجميع الأعمال الصالحة التي هي غرض المؤمن الموحد من حياته وذخيرته لمماته بجعلها خالصة لله رب العالمين .ولفظ الجلالة ( الله ) و"رب العالمين "لم يكن المشركون يطلقونهما على معبوداتهم ولا معبودات غيرهم المتخذة التي أشركوها مع الخالق سبحانه وتعالى ، وقد قرأ نافع ( محياي ) بإسكان الياء إجراء للوصل مجرى الوقف وهو مما كان يجري على ألسنة بعض العرب ولا يزال جاريا على ألسنة العراقيين حتى في الشعر .
فتذكر أيها المؤمن أن الذي يوطن نفسه على أن تكون حياته لله ومماته لله يتحرى الخير والصلاح والإصلاح في كل عمل من أعماله ويطلب الكمال في ذلك لنفسه ليكون قدوة في الحق والخير في الدنيا وأهلا لرضوان ربه الأكبر في الآخرة .ثم يتحرى أن يموت ميتة مرضية لله تعالى فلا يحرص على الحياة لذاتها ولا يخاف الموت فيمنعه الخوف من الجهاد في سبيل الله لإحقاق الحق وإبطال الباطل وإقامة ميزان العدل والأخذ على أيدي أهل الجور والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .فهذا مقتضى الدين يقوم به من يأخذه بقوة ، ولا يفكر فيه من يكتفون بجعله من قبيل الروابط الجنسية ، والتقاليد الاجتماعية فأين أهل المدينة المادية من أهل الدين إذا أقاموه كما أمر الله ؟ أولئك الماديون الذين لا هم لهم في حياتهم إلا التمتع بالشهوات الحيوانية ، والتعديات الوحشية .يعدو الأقوياء منهم على الضعفاء لاستعبادهم ، وتسخيرهم لشهواتهم ومنافعهم .و لكن المنتمين إلى الدين في هذه القرون الأخيرة قد تركوا هدايته وفتنوا بزينة أهل المدنية المادية وقوتهم ، ولم يجاروهم في فنونهم وصناعتهم ، فخسروا الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين ، ولو اعتصموا بحلبه المتين ، وعادوا إلى صراطه المستقيم ، لنالوا سيادة الدنيا وسعادة الآخرة وذلك هو الفوز العظيم ، وعسى أن يكون الزمان قد أيقظهم من رقادهم ، وهداهم إلى السير على سنن أجدادهم ، وما ذلك على الله بعزيز .