/م161
{ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} أي قل أيها الرسول الخاتم للنبيين لقومك وسائر أمة الدعوة وهم جميع البشر:إنني أرشدني ربي وأوصلني بما أوحاه إلي بفضله واختصاصه في هذه السورة وكذا غيرها إلى طريق مستقيم يصل سالكه إلى سعادة الدارين الدنيا والآخرة من غير عائق ولا تأخير لأنه لا عوج فيه ولا اشتباه ، كما قال في آية أخرى:{ ويهديك صراطا مستقيما} ( الفتح 2 ) وهو الذي أدعوكم إلى طلبه منه تعالى في مناجاتكم إياه:{ أهدنا الصراط المستقيم} ( الفاتحة 6 ) .
{ دِينًا قِيَمًا} أي أن هذا الصراط المستقيم هو الدين الذي يصلح ويقوم به أمر الناس في المعاش والمعاد فقوله:{ دينا} بدل من صراط مستقيم باعتبار المحل و{ قيما} صفة له قرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بكسر القاف وفتح الياء على أنه مصدر نعت به للمبالغة وكان قياسه"قوما "كعوض ولكنه أعل تبعا لفعله"قام "كالقيام وأصله القوام .وتقدم في أوائل تفسير النساء وأواخر المائدة أنه ما يقوم ويثبت به الشيء ، وقرأه الباقون بفتح القاف وتشديد الياء بوزن ( سيد ) وقد قالوا إنه أبلغ من المستقيم بزينته وهيئته ، وهذا أبلغ بصيغته وكثرة مادته وقيل بما في الصيغة من معنى الطلب فكان المستقيم هو الذي يقتضي أن يكون الشيء قيما ، أو يجعل ذلك سهلا .وتقدم في تفسير قوله تعالى:{ جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس} ( المائدة 97 ) ما يفيد القارئ تفصيلا فيما فسرنا به الدين القيم .
{ مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} أي أعني أو الزموا ملة إبراهيم حال كونه حنيفا أي مائلا عن جميع ما سواه من الشرك والباطل والعوج والضلال مستقيما عليه ،{ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فإن الحنيفية تنافي الشرك ففيه تكذيب لهم في دعواهم أنهم على ملة إبراهيم وقد وصف إبراهيم بالحنيف في سورة البقرة ( 2:135 ) وسورة آل عمران وسورة النحل ( 16:120 ، 123 ) وسورة الأنعام ( 6:80 ) وهذه الآية التي نفسرها وفي كل آية من هذه الآيات وصف بأنه لم يكن من المشركين وجاء في سورة النساء:{ ومن أحسن دينا ممن أسلم وجه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا} ( النساء 124 ) ولكن قيل إن حنيفا هنا حال ممن أسلم وجهه لله وقيل من إبراهيم .
هذا الدين دين التوحيد والاستقامة والإخلاص لله وحده في العبادة هو الدين الذي بعث الله به جميع رسله وقرره في جميع كتبه ، وإنما عبر عنه بملة إبراهيم لأنه عليه الصلاة والسلام وعلى آله هو النبي المرسل الذي أجمع على الاعتراف بفضله وصحة دينه وحسن هديه العرب ومن حولهم من أهل الكتاب اليهود والنصارى وكل يدعي الاهتداء بهداه ، وقد كانت قريش ومن وافقها من العرب يسمون أنفسهم الحنفاء مدعين أنهم على ملة إبراهيم ولذلك وصل وصفه بالحنيف بنفي الشرك عنه ، وكذا فعل أهل الكتاب بادعاء أتباعه وأتباع موسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام وكذا يفعل أهل البدع الشركية من المنتمين إلى الإسلام ، لأن الشرك والكفر يسري إلى أكثر الناس من حيث لا يشعرون أنه شرك وكفر وقد بينا هذا الاحتراس في تفسير{ ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفيا مسلما وما كان من المشركين} ( آل عمران 67 ) .
وقد قال تعالى في إرشاد هذه الأمة:{ فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به} ( الحج 28- 29 ) ومثله في أواخر سورة يونس:{ وأن أقم وجهك للدين حنيفا ولا تكونن من المشركين} ( يونس 105 ) وفي الروم:{ فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون} ( الروم 29- 31 ) فهذا بمعنى ما نحن بصدد تفسيره في جملته وسياقه كما نبهنا إليه في الكلام على التفرق في الدين وما هو ببعيد .
وأما أمره تعالى لخاتم رسله بالإخبار بأن ما هداه الله تعالى إليه من الدين القيم هو ملة إبراهيم فهو بمعنى أمره باتباع ملة إبراهيم في سورة النحل حيث قال:{ إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين شاكرا لأنعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم وآتيناه في الدنيا حسنة وأنه في الآخرة من الصالحين ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين} ( النحل 120- 123 ) فحكمة كل من الأخبار والأمر استمالة العرب ثم أهل الكتاب إلى الإسلام ببيان أن أساسه وقواعد عقائده ودعائم فضائله هي ما كان عليه إبراهيم المتفق على هداه وجلالته ، وكذا سائر رسل الله تعالى ، وإنما تختلف الأحكام العملية من العبادات والمعاملات المدنية والسياسية كما تقدم بيانه في قوله تعالى بعد ذكر التوراة والإنجيل من سورة المائدة:{ وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم ، فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} ( المائدة 50 ) وقد ذكرنا الآية بطولها لمناسبة آخرها لخاتمة هذه السورة التي هي أول ما نزل من السور الطول والمائدة آخر ما نزل منها .وإذ علمنا حكمة الإخبار والأمر بإتباع ملة إبراهيم فلا مجال بعد لتوهم أن إبراهيم أفضل ، ولا أن ملته أكمل ، إذ ليس هذا بمناف ولا بمعارض لنص آية إكمال الدين ، وإتمام النعمة على العالمين ، على لسان خاتم النبيين ، المبعوث رحمة للخلق أجمعين .