{ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} في هذا الجواب احتمالات:أحدها:أنه من قوم إبراهيم:أي تذكروا لما ذكرهم ، وراجعوا عقولهم وفطرتهم ، فاعترفوا بالحق كما اعترفوا حين كسر أصنامهم من بعد ، إذ قال لهم{ بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون * ثم نكسوا على رؤوسهم:لقد علمت ما هؤلاء ينطقون} [ الأنبياء:63-65] وقد روى ابن جرير هذا الاحتمال عن ابن جريج .الثاني:أنه من قبل إبراهيم عليه السلام صرح به إذ سكتوا عن الجواب مفحمين مبالغة في تبكيتهم ، وقد قال الآلوسي إن هذا روي عن علي كرم الله وجهه ، ولم أره في تفسير ابن جرير ولا ابن كثير ولا الدر المنثور ، ولعله نقله عن بعض تفاسير الشيعة .الثالث:إنه من الله عز وجل فصل به القضاء بين إبراهيم ومن حاجه من قومه – رواه ابن جرير عن ابن إسحاق وابن زيد واختاره وقال إنه أولى القولين بالصواب ، وقد يرجحه في اللفظ عطف الآية التالية على هذه .
والذي نراه أن الأمن في هذا الكلام يقابل الخوف فيه ، وهو الأمن من عذاب الرب المعبود لمن لا يرضى إيمانه وعبادته ، فإنهم خوفوا إبراهيم أن تمسه آلهتهم وأربابهم بسوء لجحده إياهم وعداوته لهم ، فأجاب بأنه إنما يخاف الله وحده ولا يخافهم ، والظلم الذي يلبس به الإيمان بالله ويخالطه ، فينقص منه أو ينقصه ، هو الشرك في العقيدة أو العبادة ، كاتخاذ ولي من دون الله يدعى معه أو من دونه ، ولو لأجل التقريب إليه والشفاعة عنده ، ويحب كحبه ، ويعظم من جنس تعظيمه ، لاعتقاد أن له سلطانا من وراء الأسباب ينفع به ويضر بذاته ، أو بتأثيره في مشيئة الله وقدرته ، ولا يدخل فيه الظلم الذي ليس من شأنه أن لا يلابس الإيمان ، كظلم المرء نفسه بإتيان بعض المضار ، أو ترك بعض المنافع عن جهل أو إهمال ، أو ظلم غيره ببعض الأحكام أو الأعمال ، وهذا التفسير للظلم يبين به ما ورد تفسيره به في الحديث المرفوع الذي سنذكره .
فإن قيل:إن الظلم في الآية نكرة في حيز النفي فهي للعموم والشمول ، قلنا:إن عموم كل شيء يحسبه قوله تعالى:{ إن الله على كل شيء قدير} [ البقرة:20] عام في كل شيء ممكن ، ولا يدخل في عمومه ذات الله تعالى وصفاته الواجبة له فلا يقال إنه قادر على إعدامها ولا على إيجادها ولا أنه غير قادر ، وقوله في ملكة سبأ:{ وأوتيت من كل شيء} [ النمل:23] عام في كل ما يحتاج إليه الملوك ، لا كل شيء في الوجود ، فمن لم يقبل جعل مثل هذا من العام بإطلاق ، فليجعله من العام الذي أريد به الخاص .وقد ذهل الزمخشري عن كون الإيمان هنا هو الإيمان المطلق الذي أثبته القرآن للمشركين لا الإيمان الصحيح الكامل الذي جاء به الرسل ولهذا الذهول جزم بأن المراد بالظلم هنا المعاصي دون الشرك لأن الشرك لا يخالط الإيمان الصحيح لأنه ضده ونقيضه .نقول نعم ولكنه يخالط مطلق الإيمان بالله تعالى وذلك قوله تعالى في المشركين:{ وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} [ يوسف:106] .
ثم لا يخفى أن الأمن في الآية مقصور على الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم فإذا حمل العموم فيها على إطلاقه وعدم مراعاة موضوع الإيمان يكون المعنى:الذين آمنوا ولم يخلطوا إيمانهم بظلم ما لأنفسهم – لا في إيمانهم ولا في أعمالهم البدنية والنفسية ، من دينية ودنيوية ، ولا لغيرهم من المخلوقات ، من العقلاء والعجماوات ، أولئك لهم الأمن من عقاب الله تعالى الديني على ارتكاب المعاصي والمنكرات ، وعقابه الدنيوي على عدم مراعاة سننه في ربط الأسباب بالمسببات ، كالفقر والأسقام والأمراض ، دون غيرهم ممن ظلموا أنفسهم أو غيرهم ، فإن الظالمين لا أمان لهم ، بل كل ظالم عرضة للعقاب وإن كان الله تعالى لسعة رحمته لا يعاقب كل ظالم على كل ظلم ، بل يعفو عن كثير من ذنوب الدنيا ، ويعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء في الآخرة ما دون الشرك به .
وهذا المعنى في تفسير الآية صحيح في نفسه ، ويترتب عليه أن الأمن المطلق من الخوف من عقاب الله الديني والدنيوي أو الشرعي والقدر جميعا لا يصح لأحد من المكلفين ، دع خوف الهيبة والإجلال ، الذي يمتاز به أهل الكمال ، وقد صح إسناد الخوف إلى الملائكة والأنبياء{ يخافون ربهم من فوقهم} [ النحل:50]{ ويرجون رحمته ويخافون عذابه} [ الإسراء:57]{ وهم من خشيته مشفقون} [ الأنبياء:28] وهذا التفسير يؤيد قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام} ،{ إلا أن يشاء ربي شيئا} على ما تقدم .وأما الأمن من عقاب الآخرة بالفعل وهو النجاة منه فهو ثابت للملائكة والأنبياء عليهم السلام ، ولكثير ممن دونهم من الصالحين الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، وإن لم يعلم ذلك في الدنيا كل منهم ليبقى جامعا بين الخوف والرجاء .ومن الناس من يؤمن فيموت قبل أن يظلم أحدا .وقد ورد حديث في إدخال مثل هذا في مفهوم الآية .
وأما معنى الآية على الوجه الأول فهو:الذين آمنوا بالله تعالى ولم يخلطوا إيمانهم بظلم عظيم ، وهو الشرك به سبحانه ، أولئك لهم الأمن دون غيرهم من العقاب الديني المتعلق بأصل الدين وهو الخلود في دار العذاب ، وهم فيما دون ذلك بين الخوف والرجاء .
وروي عن علي كرم الله وجهه أنه قال:نزلت هذه الآية في إبراهيم وقومه خاصة ليس في هذه الأمة ، ولعل مراده أن الله خص إبراهيم وقومه بأمن موحدهم من عذاب الآخرة مطلقا لا أمن الخلود فيه فقط ، ولعل سبب هذا إن صح أن الله تعالى لم يكلف قوم إبراهيم شيئا غير التوحيد اكتفاء بتربية شرائعهم المدنية الشديدة لهم في الأحوال الشخصية والأدبية وغيرها .وقد اكتشف الباحثون شريعة حمورابي الملك الصالح الذي كان في عهد إبراهيم – وقد باركه وأخذ منه العشور كما في سفر التكوين – فإذا هي كالتوراة في أكثر أحكامها ، وأما فرض الله الحج على لسان إبراهيم فقد كان في قوم ولده إسماعيل لا في قومه الكلدانيين ، وأما هذه الأمة فإن من موحديها من يعذبون بالمعاصي على قدرها ، لأنهم خوطبوا بشريعة كاملة يحاسبون على إقامتها .
هذا – وأما حصر الأمن فيمن ذكر على الوجهين فيؤخذ من تكرار الإسناد ثلاثا وتقديم المسند على المسند إليه الثالث ، ولولا إرادة الاختصاص لكان الكلام هكذا:الأمن للذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ، ولو قيل:للذين آمنوا ...الأمن – لكان آكد ، وآكد منه أن يقال:الذين آمنوا ...لهم الأمن .وآكد من هذا نص الآية .وأما كون المراد بالظلم هنا الظلم العظيم منه فقد يدل عليه تنكيره ، وأما جعل هذا الظلم العظيم خاصا بالشرك بالله تعالى فلا يعلم من نص الآية ولكن السياق وموضوع الإيمان قد يدل عليه دلالة غير قطعية لغة كما علم مما تقدم .ولذلك فهم بعض الصحابة رضي الله عنه منه العموم المطلق وهم من أهل اللسان ، فأخبرهم الرسول عليه الصلاة والسلام – وهو أعلم بمراد من أنزله عليه – بمعناه الدال على أنه من العام الذي أريد به الخاص ، روى أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم من حديث ابن مسعود أن الآية لما نزلت شق ذلك على الناس وقالوا يا رسول الله وأينا لم يظلم نفسه ؟ فقال صلى الله عليه وسلم:« إنه ليس الذي تعنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح{ إن الشرك لظلم عظيم} إنما هو الشرك »{[964]} وروي تفسير الظلم هنا بالشرك عن أبي بكر وعمر وابن عباس وأبي بن كعب وحذيفة وسلمان الفارسي وغيرهم من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم .
/خ83