وبعد أن بين لهم عليه السلام أنه لا يخاف شركاءهم بل يخاف الله وحده من ناحية الأسباب ومن غير ناحيتها قال:{ وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا} ؟ ؟ أي وكيف أخاف ما أشركتموه بربكم من خلقه فجعلتموه ندا له ، وهو لا ينفع ولا يضر ، ولا يسمع ولا يبصر ، ولا تخافون أنتم إشراككم بالله خالقكم ما لم ينزل به عليكم حجة بينة بالوحي ، ولا بنظر العقل ، تثبت لكم جعله شريكا له في الخلق والتدبير ، أو في الوساطة والشفاعة والتأثير ، فافتياتكم على خالقكم الذي بيده الضر والنفع بهذه الموبقة الفظيعة هو الذي يجب أن يخاف ويتقى .فالاستفهام للإنكار التعجبي من تخويفهم إياه ما لا يخيف ، في حال كونهم لا يخافون أخوف ما يخاف ، وقد قيل إن هذا الاستفهام عن كيفية الخوف لا عن الخوف نفسه وبحثوا عن نكتته ، والمراد نكتة العدول عن الاستفهام بالهمزة إلى الاستفهام بكيف ، وهي تؤخذ من قول أهل اللغة في معنى كيف من كونها سؤالا عن الأحوال- لا مما تكلفه بعض المفسرين- والمعنى أن كل صفة وحال يمكن أن تدعى لصحة هذا الخوف فهي باطلة ، وأنه عليه السلام لم يجد لهذا الخوف حالا ولا وجها ، فلا هو يخاف هؤلاء الشركاء لذواتهم ، ولا لما يزعمونه من وساطتهم عند الله وشفاعتهم ، ولا لقدرة على الضر والنفع قد تدَّعى- ولو بجعل الله- لهم ، ولا لثبوت جعلهم أسبابا للضرر بغير إرادة ولا اختيار منهم ، فالمراد أن جميع وجوه الخوف وأحواله الحقيقية والمجازية منتفية ، وإلا فعليهم بيان كيف يخافون .
وقد حذف متعلق الشرك في مقام إنكار خوفه من شركائهم ، وذكره بعده في مقام إنكار عدم خوفهم من شركهم ، وهو قوله:{ ما لم ينزل به عليكم سلطانا} – لأن الحاجة إلى بيان عدم وجود السلطان – أي الدليل – على هذا الشرك إنما يحتاج إليه في مقام إسناده إليهم والتعجب من عدم خوفهم سوء عاقبته ، ما لا يحتاج إليه في مقام إنكاره هو كل حال يمكن أن تدعى لخوفه من شركائهم ، فهو يثبت بذلك الإطلاق أنه لا يمكن أن توجد حال ولا صفة للخوف مما أشركوه ، فلو عدل عنه إلى تقييد إنكاره بما ذكر لفات بهذا القيد ذلك العموم البليغ ، وذهب ذهن السامعين إلى أنه سيخاف إذا ظهر له دليل على صحة دعواهم ، وهم قوم مقلدون يعتقدون أنه لا بد من وجود أدلة تثبت صحة اعتقادهم ، وإن لم يعرفوها أو يقدروا على بيانها لخصمهم ، وأما ذكر هذا المتعلق في مقام الإنكار التعجبي من عدم خوفهم فهو ضروري لأنه تذكير لهم عند ذكر عقيدتهم بأنهم لا عذر لهم بالجهل ببطلانها ، لأنه لا دليل لهم عليها .
وقال بعض المفسرين إن قوله:{ ما لم ينزل به عليكم سلطانا} قد ذكر على طريق التهكم مع الإعلام بأن الدين لا يقبل إلا بالحجة المنزلة أو مطلق الحجة القاطعة ، وأن التقليد ليس بعذر ، ولا سيما تقليد من ليس على هداية ولا علم ، ولا بصيرة ولا عقل .وذكر الرازي في العبادة وجهين:أحدهما:أنها كناية عن امتناع وجود الحجة والسلطان على الشرك ، والمعنى ما لم ينزل به سلطانا لأنه باطل لا يمكن أن يقوم عليه برهان ، فهو كقوله تعالى:{ ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به} [ المؤمنون:117] أي لا برهان له به يعلمه ولا برهان يجهله لاستحالة البرهان على الباطل .ثانيهما:أنه لا يمتنع عقلا أن يؤمر باتخاذ تلك التماثيل والصور قبلة للدعاء والصلاة .وأقول إن هذا الوجه لا محل له لأن جعلها قبلة غير جعلها شركاء يخاف ضرها ويرجى نفعها لذاتها أو لوساطتها عند الله تعالى .فالقبلة لا تأثير لها في نفع ولا ضر لا بالذات ولا بالشفاعة كما يعتقدون في الشركاء وإنما يتوجه إليها امتثالا لأمر الله ومثل ذلك استلام الحجر الأسود في الطواف ، فالانتفاع محصور في طاعة الله تعالى بذلك لأنه هو الذي يزكي النفس .
ثم رتب صلوات الله عليه على هذا الإنكار التعجبي ما هو نتيجة له بقوله:{ فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ( 81 )} ؟ المراد بالفريقين فريق الموحدين الحنفاء الذين يعبدون الله وحده ، ويخافونه ويرجونه ولا يخافون ولا يرجون غيره من دونه ، وإنما يعارضون الأسباب ، ويدافعون الأقدار بالأقدار ، كاتقاء أسباب الأمراض قبل وقوعها ، ومدافعتها بالأدوية بعد الابتلاء بها ، وفريق المشركين الذين استكبروا تأثير بعض الأسباب ، فاتخذوا من الآلهة والأرباب ، بل نسبوا إلى بعضها النفع والضر بخداع المصادفات واخترع الأوهام ، فهو يقول لهم أي هذين الفريقين أحق وأجدر بالأمن على نفسه ، من عاقبة عقيدته وعبادته ؟ ونكتة عدوله عن قول:فأينا أحق بالأمن .إلى قوله:{ فأي الفريقين} هي بيان أن هذه المقابلة عامة لكل موحد ومشرك ، من حيث إن أحد الفريقين موحد والآخر مشرك ، لا خاصة به وبهم ، فهي متضمنة لعلة الأمن .
وقيل إن نكتته الاحتراز عن تزكية النفس .واسم التفضيل على غير بابه ، فالمراد أينا الحقيق بالأمن ، ولكنه عبر باسم التفضيل ناطقا في استنزالهم عن منتهى الباطل وهو ادعاؤهم أنهم هم الحقيقون بالأمن ، وأنه هو الحقيق بالخوف ، إلى الوسط النظري بين الأمرين ، وهو أي الفريقين أحق ، واحترازا عن تنفيرهم من الإصغاء إلى قوله كله .ثم قال{ إن كنتم تعلمون} أي أيهما أحق بالأمن- أو إن كنتم من أهل العلم والبصيرة في هذا الأمر- فأخبروني بذلك ، وبينوه بالدلائل ؟ وهذا إلجاء إلى الاعتراف بالحق ، أو السكوت على الحماقة والجهل .وأما الجواب فهو قوله الحق:{ الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون} .