/م167
بعد بيان عقابه تعالى لطائفة منهم قال عز وجل:
{ وإذ تأذّن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب} تأذن صيغة تفعُّل من الإيذان ، وهو الإعلام الذي يبلغ فيدرك بالآذان ، ويتضمن هنا تأكيد القسم ، ومعنى العهد المكتوب الملتزم ، بدليل مجيء لام القسم ونون التوكيد في جوابه .والمعنى:واذكر أيها الرسول الخاتم العام إذ أعلم ربك هؤلاء القوم مرة بعد المرة أنه قد قضى في علمه وكتب على نفسه ، وفاقا لما أقام عليه نظام الاجتماع البشري من سننه ليبعثن ويسلطن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ، أي يريده ويوقعه بهم ، عقابا على ظلمهم وفسقهم وفسادهم ، وهو مجاز من سوم الشيء ، كما يقال سامه خسفا .وسوء العذاب ما يسوء صاحبه ويذله ، وهو هنا سلب الملك ، وإخضاع القهر .
ومصداق هذا وتفصيله على ما قررنا قوله تعالى في أول سورة الإسراء{ وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا} [ الإسراء:4] إلى قوله{ وليتبروا ما علوا تتبيرا} [ الإسراء:7] قال:{ عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا} [ الإسراء:8] الآية أي وإن عدتم بعد عقاب المرة الآخرة إلى الإفساد ، عدنا إلى التعذيب والإذلال ، وقد عادوا فسلط الله عليهم النصارى فسلبوا ملكهم الذي أقاموه بعد نجاتهم من السبي البابلي ، وقهروهم واستذلوهم ، ثم جاء الإسلام فعاداه منهم الذين كانوا هربوا من الذل والنكال ولجؤوا إلى بلاد العرب فعاشوا فيها أعزاء آمنين ، ولم يفوا للنبي صلى الله عليه وسلم بما عاهدهم عليه إذ أمنهم على أنفسهم وأموالهم وحرية دينهم ، بل غدروا به وكادوا له ، ونصروا المشركين عليه ، فسلطه الله عليهم فقاتلهم فنصره عليهم ، فأجلى بعضهم ، وقتل بعضا ، وأجلى عمر من بقي منهم ، ثم فتح عمر سورية بعضها بالصلح كبيت المقدس ، وبعضها عنوة ، فصار اليهود من سيادة الروم الجائرة القاهرة فيها إلى سلطة الإسلام العادلة ، ولكنهم ظلوا أذلة بفقد الملك والاستقلال .وقد بينا حقيقة حالهم ، وما يحاولونه من استعادة ملكهم في هذا الزمان في غير هذا الموضع من هذا التفسير ، وفي مواضع من المنار .
{ إن ربك لسريع العقاب} للأمم التي تفسق عن أمره وتفسد في الأرض فلا يتخلف عقابه عنها كما يتخلف عن بعض الأفراد{ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} [ الإسراء:16] أي أمرناهم بالحق والعدل ، والرحمة والفضل ، فعصوا وفسقوا عن الأمر ، وأفسدوا وظلموا في الأرض ، فحق عليهم القول ، بمقتضى سنته تعالى في الخلق ، فحل بهم الهلاك على الفور .
{ وإنه لغفور رحيم} لمن تاب عقب الذنب ، وأصلح ما كان أفسد في الأرض ، قبل أن يحق عليه القول{ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى} [ طه:82] وهذا كما قال في اليهود بعد ذكر إفسادهم مرتين{ عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا} [ الإسراء:8] وقلما ذكر الله عذاب الفاسقين المفسدين ، إلا وقرنه بذكر المغفرة والرحمة للتائبين المحسنين ، حتى لا ييأس صالح مصلح من رحمته بذنب عمله بجهالة ، ولا يأمن مفسد من عقابه اغترارا بكرمه وعفوه وهو مصر على ذنبه .