/م172
قال تعالى:
{ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم} الظهور جمع ظهر وهو العمود الفقري لهيكل الإنسان الذي هو قوام بنيته ، ومركز النخاع الشوكي الذي عليه مدار حياته ، فيصح أن يعبر به عن جملة وجوده الجسدي الحيواني ، والذرية سلالة الإنسان من الذكور والإناث .قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب ( ذرياتهم ) بالجمع والباقون ومعناهما واحد فإن المفرد المضاف يفيد العموم ، ورسمها في المصحف الإمام واحد ، وقوله ( من ظهورهم ) بدل من بني آدم بمعناه والجمهور على أنه بدل البعض من الكل ، وهو الظاهر إذا لم يرد بهذا البعض ذلك الكل ، وقال أبو البقاء هو بدل اشتمال .
والمعنى واذكر أيها الرسول في إثر ذكر أخذ ميثاق الوحي على بني إسرائيل خاصة ، ما أخذه الله من ميثاق الفطرة والعقل على البشر عامة ، إذ استخرج من بني آدم ذريتهم بطنا بعد بطن ، فخلقهم على فطرة الإسلام ، وأودع في أنفسهم غريزة الإيمان ، وجعل من مدارك عقولهم الضرورية إن كل فعل لابد له من فاعل ، وكل حادث لابد له من محدث ، وإن فوق كل العوالم الممكنة القائمة على سنة الأسباب والمسببات ، والعلل والمعلولات ، سلطانا أعلى على جميع الكائنات ، وهو الأول والآخر ، وهو المستحق للعبادة وحده ، -وقد بسطنا هذه المسألة- وهذا معنى قوله تعالى:{ وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا} [ الأعراف:172] أي أشهد كل واحد من هذه الذرية المتسلسة على نفسه بما أودعه في غريزته واستعداد عقله قائلا قول إرادة وتكوين ، لا قول وحي وتلقين ، ألست بربكم ؟ فقالوا كذلك بلغة الاستعداد ولسان الحال ، لا بلسان المقال:بل أنت ربنا والمستحق وحده لعبادتنا .
فهو من قبيل قوله تعالى بعد ذكر خلق السماء{ فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين} [ فصلت:11] وهذا النوع من التعبير والبيان يسمى في عرف علماء البلاغة بالتمثيل ، وهو أعلى أساليب البلاغة وشواهده في القرآن الكريم وكلام البلغاء كثيرة .
بين سبحانه سبب هذا الإشهاد وعلته فقال:
{ أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} أي فعلنا هذا منعا لاعتذاركم أو احتجاجكم يوم القيامة بأن تقولوا إذا أنتم أشركتم به:إنا كنا غافلين عن هذا التوحيد للربوبية وما يستلزمه من توحيد الإلهية بعبادة الرب وحده والمراد أنه تعالى لا يقبل منهم الاعتذار بالجهل .
/خ174