{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أنفُسِهِمْ أَلَسْت بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ( 172 ) أَوْ تَقُولُواْ إنمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ( 173 ) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ( 174 )}:
المفردات:
من ظهورهم: من أصلابهم .
التفسير:
172 - وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا ...} الآية .
تمهيد:
تأتي هذه الآيات بعد قصة مع قومه ،وحديث عن بني إسرائيل ،ومن هذه الآية إلى آخر السورة نجد حديثا موضوعه: الربوبية والتوحيد ،والعبودية والشرك ،ويبدأ كل ذلك ببيان ما أودع الله في فطرة البشر ،وعقولهم ،من الاستعداد للإيمان بالله وتمجيده وشكره .
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا ....}
لهذه الآية عند المفسرين طريقان أحدهما لفظي ،والثاني معنوي .
التفسير الأول:
مسح الله ظهر آدم فأخرج منه ذريته كالذّر ،وجعل لهم العقل والنطق وألهمهم ذلك الإقرار ،ثم أعادهم إلى ظهرهم أبيهم .
قال الشوكاني في فتح القدير:
أن الله سبحانه لما خلق آدم مسح ظهره ،فاستخرج منه ذريته وأخذ عليهم العهد ،وهؤلاء هم عالم الذر .{وأشهدهم على أنفسهم} .أي: أشهد كل واحد منهم ألست بربكم .أي: قائلا: ألست بربكم ؟.
{قالوا بلى شهدنا} .أي: على أنفسنا بأنك ربنا .
التفسير الثاني:
الكلام على سبيل المجاز التمثيلي لكون الناس قد فطرهم الله تعالى على معرفته ،والإيمان به ،وجعلهم مستعدين جميعا للنظر المؤدى إلى الاعتراف بوحدانيته ،ولا إخراج للذرية ،ولا قول ولا إشهاد بالفعل ،بل الأمر تعبيرا عما أودع الله في الفطرة الإنسانية من ركائز الإيمان .
قال الزمخشري في تفسير الكشاف:
وقوله:{ألست بربكم قالوا بلى} من باب التمثيل:
ومعنى ذلك: أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم ،وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى فكأنه أشهدهم على أنفسهم وقررهم ،وقال:{ألست بربكم} وكأنهم قالوا بلى أنت ربنا شهدنا على أنفسنا ،وأقررنا بوحدانيتك ،وباب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ،وفي كلام رسوله صلى الله عليه وسلم ،وفي كلام العرب ،ونظيره قوله تعالى:{إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} وقوله تعالى:{فقال لها وللأرض ائتيا طوعا وكرها قالتا أتينا طائعين} .
وقوله:
إذ قالت الأنساع للبطن الحق ***قالت له ريح الصبا فرقار54
ومعلوم أنه لا قول ثم هو تمثيل وتصوير للمعنى .
وقد أيد كل فريق رأيه بأدلة متعددة:
فأصحاب الرأي الأول: أيدوا رأيهم بأحاديث واردة في الصحيحين كما في تفسير أبي السعود وغيره:
جاء في تفسير أبي السعود:
"وقد حملت هذه المقاولة على الحقيقة ،كما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما من أنه لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام ،مسح ظهره فأخرج منه كل نسمة هو خالقها يوم القيامة ،فقال ألست بربكم ؟قالوا بلى: فنودي يومئذ: جف القلم لما هو كائن إلى يوم القيامة "55 .
ابن كثير جمع بين التفسيرين:
ابن كثير لم ير أن أيا من التفسيرين يعارض الآخر ،من حيث المبدإ ،فقد جبل الله الفطرة على التوحيد ،كما استخرج ذرية آدم من ظهورهم وأشدهم على أنفسهم .
جاء في تفسير ابن كثير:
يختبر الله تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم ،شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو ،كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه .
قال تعالى:{فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله} . ( الروم: 30 ) .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه ،كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟!"56
وفي رواية:"كل مولود يولد على هذه الملة ".
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمّار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم ،وحرمت عليهم ما حللت لهم ". 57
وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام ،وتمييزهم إلى أصحاب اليمين ،وأصحاب الشمال ،وفي بعضها الاستشهاد عليهم بأن الله ربهم .
روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به ؟قال: فيقول: نعم ،فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك ،قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي "58 .أخرجاه في الصحيحين .
وروى الإمام أحمد أيضا عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية:{وإذ أخذ ربك من بني آدم ظهورهم ذريتهم وأشدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ...} الآية .
قال عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها فقال:"أن الله خلق آدم عليه السلام ،ثم مسح ظهره بيمينه ،فاستخرج منه ذرية ،قال خلقت هؤلاء للجنة ،وبعمل أهل الجنة يعملون .... ثم مسح ظهره ،فاستخرج منه ذرية ،قال: خلقت هؤلاء للنار ،وبعمل أهل النار يعملون .فقال رجل: يا رسول الله ،ففيم العمل ؟!قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا خلق الله العبد للجنة ،استعمله بأعمال أهل الجنة ،حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة ،فيدخله به الجنة ،وإذا خلق الله العبد للنار استعمله بأعمال أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار ،فيدخله به النار "59 .وهكذا رواه أبو داود والنسائي والترمذي وقال: هذا حديث حسن .
وقال الإمام ابن القيم في كتاب الروح ما خلاصته:
أن الله سبحانه استخرج صور البشر وأمثالهم ،فميّز: شقيهم وسعيدهم ،ومعافاهم من مبتلاهم ،والآثار متظاهرة به مرفوعة ،وأن الله أقام عليهم الحجة حينئذ وأشهدهم بربوبيته ،واستشهد عليهم ملائكته ،كما تدل على ذلك الآية .
قال أبو إسحاق: جائز أن يكون الله سبحانه جعل لأمثال الذر التي أخرجها فهما تعقل به ،كما قال:{قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم} . ( النمل: 18 ) .وقد سخر مع داود الجبال تسبح معه والطير ،وقال ابن الأنباري: مذهب أهل الحديث وكبراء العلم في هذه الآية: أن الله أخرج ذرية آدم من صلبه وأصلاب أولاده وهم صورة الذر فأخذ عليهم الميثاق أنه خالقهم وأنهم مصنوعون له ،فاعترفوا بذلك وفعلوا .
وذلك بعد أن ركب فيهم عقولا بها ما عرض عليهم كما جعل للجبل عقلا حين خوطب ،وكما فعل بالبعير لما سجد ،وبالنخلة حتى سمعت وانقادت حين دعيت60 .اه .
وقد نقل الإمام ابن كثير طائفة كبيرة من الأحاديث النبوية في تفسير الآية وما يتصل بها ،ثم قال:"ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف: أن المراد بهذا الإشهاد: إنما هو فطرهم على التوحيد كما تقدم في الأحاديث النبوية الشريفة وقد فسر الحسن الآية بذلك "61اه .
ومجمل معنى الآية:
إن الله تعالى نصب للناس في كل شيء من مخلوقاته – ومنها أنفسهم – دلائل توحيده وربوبيته ،وركز فيهم عقولا وبصائر ،يتمكنون بها تمكنا تاما من معرفته ،والاستدلال بها على التوحيد والربوبية ،حتى صاروا بمنزلة من إذا دعى إلى الإيمان بها ؛سارع إليه .
وقال الأستاذ عبد الكريم الخطيب:
ليس بعجيب أن يكون بيننا وبين الله هذا الموقف ،الذي شهدت أرواحنا ،ولم تشهده أجسامنا ...كما شهدته المخلوقات جميعا من حي وغير حي ،كما قالت السماوات والأرض أتينا طائعين .
وهذه الشهادة إقرار سابق بولائنا جميعا لله وإيمانا بوحدانيته .
وإن من شأن هذا الإقرار أن يقيم وجوهنا إلى الله بعد أن نلبس هذه الأجساد التي نعيش فيها .
فهذا الإقرار رصيد من الإيمان نستقبل به الحياة ،ونتلاقى به على طريق الإيمان مع دعوة العقل الذي أوجده الله فينا ومع دعوة الرسل الذين أرسلهم الله إلينا .
{أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} .
أي: ليقطع عليكم العذر أن تقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن الإيمان بالله والتعرف عليه غافلين ،فذلك عذر غير مقبول ...إذ كيف تغفلون وفيكم داع يدعوكم إلى الإيمان بالله ،وهي تلك الفطرة التي أشهدها الله عليكم .
وقد نصب الله لكم في كل شيء وفي مخلوقاته ما يدل على وحدانيته ،وأرسل لكم الرسل مبشرين ومنذرين:{لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل} . ( النساء: 165 ) .
فقد بطل عذركم وسقطت حجتكم ،