/م9
{ إذ يغشّيكم النعاس أمنة منه} هذه منة أخرى من مننه تعالى على المؤمنين ، التي كانت من أسباب ظهورهم على المشركين ، وهي إلقاؤه تعالى النعاس عليهم حتى غشيهم – أي غلب عليهم فكان كالغاشية تستر الشيء وتغطيه- تأمينا لهم من الخوف الذي كان يساورهم من الفرق العظيم بينهم وبين عدوهم في العدد والعدة وغير ذلك .روى أبو يعلى والبيهقي في الدلائل عن علي كرم الله وجهه قال ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد ، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تحت شجرة حتى أصبح .وذلك أن من غلب عليه النعاس لا يشعر بالخوف ، كما أن الخائف لا ينام ، ولكن قد ينعس ، والنعاس فتور في الحواس وأعصاب الرأس يعقبه النوم فهو يضعف الإدراك ولا يزيله كله فمتى زال كان نوما ولذلك قال بعضهم هو أول النوم .
وفي المصباح:وأول النوم النعاس وهو أن يحتاج الإنسان إلى النوم ، ثم الوسن وهو ثقل النعاس ، ثم الترنيق وهو مخالطة النعاس للعين ، ثم الكرى والغمض وهو أن يكون الإنسان بين النائم واليقظان ، ثم العفق وهو النوم وأنت تسمع كلام القوم ، ثم الهجود والهجوع 1ه .وهو يفيد أن الوسن والترنيق درجتان من درجات النعاس وأن الكرى مرتبة فاصلة بين النعاس والنوم ، وفي المصباح أيضا أن النعاس اسم مصدر لنعس من باب قتل ، والجمهور على أنه من باب فتح فهو من البابين ، وضعوا اسمه بوزن فعال بالضم كأنهم عدوه من الأمراض كالسعال والفواق والكباد .
وقال علي رضي الله عنه إنهم ناموا يومئذ ، وظاهر عبارته أنهم ناموا في الليل والمتبادر أن نعاسهم كان في أثناء القتال ، وقد ذكرنا الخلاف في ذلك وتحقيق الحق فيه في تفسير قوله تعالى:{ ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم} [ آل عمران:154] وهو في سياق غزوة أحد .وقلت هنالك:قد تقدم في ملخص القصة ذكر هذا النعاس وأنه كان في أثناء القتال ، وإنما كان مانعا من الخوف لأنه ضرب من الذهول والغفلة عن الخطر ، ولكن روي أن السيوف كانت تسقط من أيديهم واختار الأستاذ الإمام أنه كان بعد القتال الخ فيحسن مراجعته ففيه الكلام على النعاس يوم بدر أيضا وهو في ( ج4 تفسير ) .
قرأ الأكثرون ( يغشّيكم ) بالتشديد من التغشية وهو إما للتدريج وإما للمبالغة في التغطية ، وقرأه نافع بالتخفيف من الإغشاء ، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ( يغشاكم ) من الثلاثي ورفع النعاس على أنه فاعله ، وهذا لا يخالف القراءتين قبله بل هو كالمطاوع لهما ومعنى الثلاثة أن الله تعالى جعل النعاس يغشاكم فغشيكم ، وأما صيغ الفعل ودلالة قراءة التشديد على التدريج أو المبالغة دون قراءة التخفيف فيحمل اختلافهما على اختلاف حال من غشيهم النعاس فهو لا يكون عادة إلا بالتدريج ويكون أشد على بعض الناس من بعض ، وقد ذكرنا بحث صيغة ( غ ش ي ) في اللغة في تفسير سورة الأعراف .
{ وينزّل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام} وهذه منة ثالثة منه عز وجل على المؤمنين ، كان لها شأن عظيم في انتصارهم على المشركين ، روى ابن المنذر وأبو الشيخ من طريق ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه أن المشركين غلبوا المسلمين في أول أمرهم على الماء فظمئ المسلمون وصلوا مجنبين محدثين ، وكان ببينهم رمال فألقى الشيطان في قلوبهم الحزن وقال أتزعمون أن فيكم نبيا وأنكم أولياء الله وتصلون مجنبين محدثين ؟ فأنزل الله من السماء ماء فسال عليهم الوادي ماء فشرب المسلمون وتطهروا وثبتت أقدامهم ( أي على الدهاس أو الرمل اللين لتلبده بالمطر ) وذهبت وسوسته .
هذا أثبت وأوضح وأبسط ما ورد في المأثور عن هذا المطر في بدر ، وعن مجاهد أنه كان قبل النعاس خلافا لظاهر الترتيب في الآية والواو لا توجبه .ولولا هذا المطر لما أمكن المسلمين القتال لأنهم كانوا رجالة ليس فيهم إلا فارس واحد هو المقداد كما تقدم وكانت الأرض دهاسا تسيخ فيها الأقدام أو لا تثبت عليها .
قال المحقق ابن القيم في الهدي النبوي:وأنزل الله عز وجل في تلك الليلة مطرا واحدا فكان على المشركين وابلا شديدا منعهم من التقدم ، وكان على المسلمين طلاّ طهرهم به وأذهب عنهم رجس الشيطان ، ووطأ به الأرض وصلب الرمل ، وثبت الأقدام ، ومهد به المنزل ، وربط على قلوبهم .فسبق رسول الله وأصحابه إلى الماء فنزلوا عليه شطر الليل وصنعوا الحياض ثم غوروا ما عداها من المياه ، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على الحياض وبني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش يكون فيها على تل مشرف على المعركة ومشى في موضع المعركة وجعل يشير بيده ( هذا مصرع فلان ، وهذا مصرع فلان ، وهذا مصرع فلان إن شاء الله تعالى ) فما تعدى أحد منهم موضع إشارته اه .
وقد ذكر ابن هشام مسألة المطر بنحو مما قال ابن القيم ثم قال:
قال ابن إسحاق فحدثت عن رجال من بني سلمة أنهم ذكروا أن الحباب بن المنذر ابن الجموح قال يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزله الله ليس لنا أن نتقدمه ولا أن نتأخر عنه ؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال:( بل هو الحرب والرأي والمكيدة ) قال يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغوّر ما وراءه من القلب ( بضمتين جمع قليب وهي البئر غير المطوية أي غير المبنية بالحجارة ) ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون .فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( لقد أشرت بالرأي ) وذكر أنهم فعلوا ذلك .
ذكر تعالى لذلك المطر أربع منافع:الأولى:تطهيرهم به أي تطهيرا حسيا بالنظافة التي تشرح الصدر وتنشط الأعضاء في كل عمل –وشرعيا بالغسل من الجنابة والوضوء من الحدث الأصغر .الثانية:إذهاب رجز الشيطان عنهم .والرجز والرجس والركس كلها بمعنى الشيء المستقذر حسا أو معنى والمراد هنا وسوسته كما تقدم في المأثور .الثالثة:الربط على القلوب ويعبر به عن تثبيتها وتوطينها على الصبر كما قال تعالى:{ وأصبح فؤاد أم موسى فارغا إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها} [ القصص:10] .وتأثير المطر في القلوب تفسره المنفعة الرابعة:وهو تثبيت الأقدام به فإن من كان يعلم أنه يقاتل في أرض تسوخ فيها قدمه كلما تحرك وهو قد يقاتل فارسا لا راجلا لا يكون إلا وجلا مضطرب القلب .