{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَان وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ ( 11 ) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أني مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَان ( 12 ) ذَلِكَ بِأنهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإن اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ( 13 ) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأن لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ ( 14 )}
المفردات:
يعشيكم النعاس: أي: يغطيكم الله ويشملكم بالنعاس ،والنعاس: فتور في الحواس وأعصاب الرأس ،ويعقبه النوم ،يضعف الإدراك ولا يزيله .
أمنة منه: أي: أمنا من الله وطمأنينة .
رجز الشيطان: أي: وسوسته وتخويفهم لهم .
وليربط على قلوبكم: الربط: الشد ،ويقال لكل من صبر على أم ربط على قلبه .
التفسير:
{11 - إذ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ ...} الآية .
يمن الله تعالى على المؤمنين في هذه الغزوة بطائفة من النعم ،منها ما سبق إمدادهم بالملائكة للبشرى بالنصر ،وهنا ذكر منه أخرى ،وهي إرسال النعاس عليهم ليلة المعركة ؛حتى تهدأ نفوسهم ،وتستريح أبدانهم ،وقد كانوا في حالة قلة من العدة والعدد أمام عدو كثير العدة والعدد ،ومن شأن هذه الحالة أن تذهب النعاس وأن تترك الإنسان يضرب أخماسا في أسداس فيحارب ليلة في غير حرب ،ثم يصبح عند لقاء العدو ضعيف القوة واهن البدن ،فكان من نعمة الله عليهم إرسال النعاس والنوم عليهم ليلة المعركة .
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد بن الأسود ،ولقد رأيناه وما فينا إلا نائم ،إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تحت شجرة حتى أصبح .
وفي تفسير ابن كثير: وجاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق وهما يدعوان ،أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة من النوم ،ثم استيقظ مبتسما ،فقال: أبشر يا أبا بكر ،هذا جبريل على ثناياه النقع !ثم خرج من باب العريش وهو يتلو قول الله تعالى:{سيهزم الجمع ويولون الدبر} .
ومن المفسرين من ذهب إلى أن الله امتن عليهم بأن غشيهم النعاس بالليل ،أي: في ليلة المعركة ؛حتى يستريحوا وتهدأ النفوس ،ويذهب عنهم القلق والاضطراب ،واستبعد أن ينزل النعاس عليهم أثناء المعركة ؛لأنه معطل لهم .
ذهب إلى ذلك الفخر الرازي في تفسيره الكبير فقال:
1 – إن الخائف إذا خاف من عدوه ؛فإنه لا يأخذه النوم ،وإذا نام الخائفون ؛أمنوا ،فصار حصول النوم لهم في وقت الخوف الشديد نعمة من الله .
2 – إنهم ناموا نوما غير مستغرق بل كان نعاسا يذهب الإعياء والكلال ،ولو قصدهم العدو في هذه الحالة لعرفوا وصوله ،ولقدروا على دفعه .
3 – إنه غشيهم هذا النعاس دفعة واحدة مع كثرتهم ،وحصول النعاس للجمع العظيم في الخوف الشديد أمر خارق للعادة ،فلهذا السبب قيل: أن ذلك النعاس كان في حكم المعجز .
وقال الإمام محمد عبده: لقد قضت سنة الله في الخلق ،بأن من يتوقع في صبيحة ليلته هولا كبيرا ومصابا عظيما ؛فإنه يتجافى جنبه عن مضجعه ،فيصبح خاملا ضعيفا ،وقد كان المسلمون يوم بدر يتوقعون مثل ذلك ،إذ بلغهم أن جيشا يزيد على عددهم ثلاثة أضعاف سيحاربهم غذا ،فكان من مقتضى العادة أن يناموا على بساط الأرق والسهاد ...ولكن الله رحمهم بما أنزل عليهم من النعاس ،غشيهم فناموا واثقين بالله ،مطمئنين لوعده ،وأصبحوا على همة ونشاط في لقاء عدوهم وعدوه فالنعاس لم يكن يوم بدر في وقت الحرب بل قبلها ....
والأستاذ عبد الكريم الخطيب: يرى أن النعاس الذي غشى المسلمين إنما كان ليلة الحرب ،لا في ميدان القتال ،كما يرى بعض المفسرين ...لأن وقوع النوم والمعركة دائرة ،من عوامل الخذلان لا من عدة النصر .
كما جاء في التفسير الوسيط بإشراف مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر:
إن النعاس كان في الليلة السابقة على القتال ،وإذا تأملنا في الموضوع وجدنا أنه ليس هناك ما يمنع أن يكون النعاس قد أصاب المقاتلين ليلة المعركة ،وأن يكون النعاس قد أصاب النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة المعركة ،كما أصاب بعض المسلمين على أنه استراحة يسيرة ،أو إغفاءة محدودة ،تهدأ فيها الأعصاب ،وتسكن النفس ،ويستجمع الجسم ثباته وقوته .
خصوصا أنه قد ورد في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،قد أخذته سنة من النوم صبيحة المعركة ،إننا نقيس الأمور بمقياس نظام الدنيا ،أما إذا كان الأمر بمقياس فضل الله ومنته ،فإنه يمكن أن يصيب النعاس الجيش في صبيحة المعركة خلال ربع ساعة ،أو أقل أو أكثر ،يوقتها العليم الخبير ،في وقت لا يضر باستعدادات الجيش ،ولا بعلمه أثناء القتال .
ويذكر الأستاذ سيد قطب: أن الإنسان أحيانا يكون مرهقا متعبا ثم يغفى إغفاءة يسيرة ،يقوم بعدها في غاية القوة والنشاط .
وقد مر بنا ما رواه ابن كثير من أنه جاء في الصحيح: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق وهما يدعوان ،أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة من النوم ،ثم استيقظ مبتسما ،فقال: أبشر يا أبا بكر ،هذا جبريل على ثناياه النقع !ثم خرج من باب العريش وهو يتلو قول الله تعالى:
{سيهزم الجمع ويولون الدبر} . xv( القمر: 45 ) .
إن المعجزة: أمر خارق للعادة يظهره الله على يد مدعى الرسالة ؛تصديقا له في دعواه .
والمعونة: توفيق ونجاح يصيب بعض الصالحين في أعمالهم ،وقد كان النعاس معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم ومعونة للمؤمنين ،سواء أكان ذلك في الليل أم في النهار قبيل المعركة ،خاصة بعد أن امتن الله به عليهم وقال: إذ يغشيكم النعاس أمنة منه .
{وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان ...}
تحكي الآية جوانب متعددة من فضل الله على المؤمنين في معركة بدر .
فقد أرسل الله عليهم النوم ليلة المعركة ،وأصبح بعضهم جنبا نتيجة الاحتلام في النوم ،وجاء الشيطان يوسوس لهم ويثبط همتهم ،فالماء شحيح قليل ،صحيح أنه يمكن الاستغناء عن الاغتسال والوضوء بالتيمم ،إلا أن المؤمن كما يقول الإمام فخر الدين الرازي:"يكاد يستقذر نفسه إذا كان جنبا ،ويغتم إذا لم يتمكن من الاغتسال ،ويضطرب قلبه لأجل هذا السبب ...".
وكان جيش المسلمين قد نزل بعدوة الوادي القريبة من المدينة بعيدا عن الماء في أرض رملية وسبخة ،أما المشركون فقد نزلوا على ماء بدر بالعدوة القصوى في أرض جلدة .
فأصبح المسلمون لا يجدون الماء ليشربوا ويغتسلوا ويتوضئوا ،فكان هذا موقف مزرعة لأحاديث الشيطان النفسية ،ووسوسته للمؤمنين ،وتخويفه إياهم من العطش وغيره عند فقدهم الماء ،فأدرك الله المؤمنين بلطفه ،وأنزل عليهم من السماء مطرا سال به الوادي ،فشربوا واتخذوا الحياض على عدوة الوادي الدنيا ،واغتسلوا وتوضئوا وملئوا الأسقية ،وتلبدت الأرض السبخة وثبتت عليها الأقدام ،على حين كان المطر كارثة على المشركين ،فقد تحولت الجلدة إلى أوحال لا يقدرون معها على الحركة في القتال .
لقد كان الماء طهارة حسية من الحدث الأصغر والأكبر ،وطهارة نفسية رفعت روحهم المعنوية ،وجعلتهم في حالة من الصفاء والرغبة في التضحية والموت في سبيل الله ،وبهذا ذهب عنهم رجز الشيطان أي: وسوسته وأصل الرجز: الاضطراب ،يقال: ناقة رجزاء ؛إذا تقارب خطوها واضطرب ؛لضعفها ومن في قلبه رجز الشيطان ووسوسته ،ضعيف العزيمة ؛لأن همته خائرة مترددة بين الإقدام والإحجام .
قال تعالى:{إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} . ( الأعراف: 201 ) .
{وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام} .
أي: ويقوى قلوبكم بالثقة في نصر الله ،وليوطنها على الصبر والطمأنينة .
وأصل الربط: الشد ،ويقال لكل من صبر على أمر: ربط قلبه عليه ،أي: حبس قلبه عن أن يضطرب أو يتزعزع ،ومنه قولهم: رجل رابط الجأش ،أي: ثابت متمكن ...
{ويثبت به الأقدام} .أي: أن الله أنزل عليهم المطر ليلة المعركة لتطهيرهم حسيا ومعنويا ،ولتقويتهم وطمأنتهم ،ولتثبيت الأقدام به حتى لا تسوخ في الرمال .
ومن جهة أخرى فإن طهارتهم الحسية والمعنوية ،وذهاب رجز الشيطان ووسوسته ،وقوة اليقين في القلب ورباطة الجأش ،من شأنها أن تثبت قدم المقاتل في مواطن القتال .
أي: أنه كان هناك تثبيت للأقدام حسيا بماء المطر حين يختلط بذرات التراب ،فلما أمسك المطر وسطعت الشمس ؛جفت الأرض ،وصار على وجهها طبقة صلبة ،أشبه بالطين اللازب ،فثبتت عليه أقدامهم ،وكان هناك يقين القلب وطمأنينة النفس ،التي تؤدي بدورها إلى ثبات القدم ،بحيث يصبح المقاتل واثقا بنفسه ؛لأنه يؤدى دورا في مرضاة الله وتوفيقه .
من كتب التفسير:
1 – جاء في تفسير ابن جرير الطبري: عن ابن عباس قال:
"نزل النبي صلى الله عليه وسلم حين سار إلى بدر ،والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دعصة – أي: كثيرة مجتمعة – فأصاب المسلمين ضعف شديد ،وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ ،فوسوس بينهم: تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله ،وقد غلبكم المشركون على الماء ،وأنتم تصلون مجنبين .فأمطر الله عليهم مطرا شديدا ،فشرب المسلمون وتطهروا ،وأذهب الله عنهم رجز الشيطان ،وثبت الرمل حين أصابه المطر ،ومشى الناس عليه والدواب ،فساروا إلى القوم ... xvi "
2 – جاء في تفسير ابن كثير ما يأتي:
"عن عروة بن الزبير قال: بعث الله السماء وكان الوادي دهسا فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما لبد بهم الأرض ،ولم يمنعهم من السير ،وأصاب قريشا ما لم يقدروا على أن يرحلوا معه ..."xvii