/م55
قال تعالى:{ إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون ( 55 )} .
أي إن شر ما يدب على وجه الأرض عند الله أي في حكمه العدل على الخلق هم الكفار الذين جمعوا مع أصل الكفر الإصرار عليه والرسوخ فيه بحيث لا يرجى إيمانهم في جملتهم أو إيمان جمهورهم لأنهم بين رؤساء حاسدين للرسول صلى الله عليه وسلم معاندين له جاحدين بآيات الله المؤيدة لرسالته على علم كما قال تعالى فيهم{ يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} [ البقرة:146] الآية ، وبين مقلدين جامدين على التقليد لا ينظرون في الدلائل والآيات ، ولا يبحثون في الحجج والبينات ، حتى حملهم ذلك على نقض العهود ونكث الأيمان بحيث لا حيلة في الحياة معهم أو في جوارهم حياة سلم وأمان كما ثبت بالتجربة .
عبر عنهم بالدواب وهو اللفظ الذي غلب استعماله في البهائم ذوات الأربع أو فيما يركب منها لإفادة أنهم ليسوا من شرار البشر فقط ، بل هم أضل من عجماوات الدواب ، لأن فيها منافع للناس وهؤلاء لا خير فيهم ولا نفع لغيرهم منهم ، فإنهم لشدة تعصبهم لجنسهم قد صاروا أعداء لسائر البشر كما قال في وصف أمثالهم{ أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا} [ الفرقان:44] وكما قال في الآية 22 من هذه السورة{ إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون} [ الأنفال:22] وقد اقتبس أستاذنا الإمام هذا الاستعمال فقال في مقالة له من مقالات العروة الوثقى:وكثير ممن على شكل الإنسان يحيا حياته هذه بروح حيوان آخر وهو يعاني في تحصيل شهواتهاأو قال كلمة أخرى قريبة منهاأكثر مما يعانيه الإنسان في إبراز مزايا الإنسان .
وقال:{ الذين كفروا} فعبر عنهم بفعل الكفر دون الوصف ( الكافرون ) للإشارة إلى أنهم كانوا مؤمنين فعرض لهم الكفر ، وهذا ظاهر في جملة اليهود الذي كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم كما كفروا بمن قبله ، وهم في عرف القرآن متكافلون متشابهون آخرهم في ذلك كأولهم ، وهو أظهر في يهود المدينة الذين كانوا في عصر الرسالة المحمدية فإنهم كانوا يعلمون أن الله سيبعث النبي الكامل الذي بشر به موسى في التوراة كما تقدم مفصلا في تفسير سورة الأعراف ومجملا في سورة البقرة وغيرها .وكانوا يعلمون أنه يبعث من العرب ، لأن من نصوص التوراة الموجودة إلى الآن أنه تعالى يبعث لهم نبيا مثل موسى بين بني إخوتهم أي بني إسماعيل ، وكانوا يطمعون في أن يكون هذا النبي منهم ، ويرون أنه يكفي في صحة خبر التوراة ظهوره بين العرب وإن لم يكن منهم ، لأن النبوة بزعمهم محتكرة محتجنة لبني إسرائيل ، على ما اعتادوا من التحريف والتأويل .
وقال:{ فهم لا يؤمنون} لأن كلمة « كفروا » لا تقتضي الثبات على الكفر دائما فعطف عليها الإخبار بأن كفرهم دائم لا يرجعون عنه في جملتهم ، حتى ييأس الرسول والمؤمنون مما كانوا يرجون من إيمانهم ، وهذا لا ينافي وقوع الإيمان من بعضهم وقد وقع ، وهذا الخبر من أنباء الغيب .
/خ59