وقوله:( ووضع الكتاب ) أي:كتاب الأعمال ، الذي فيه الجليل والحقير ، والفتيل والقطمير ، والصغير والكبير ( فترى المجرمين مشفقين مما فيه ) أي:من أعمالهم السيئة وأفعالهم القبيحة ، ( ويقولون ياويلتنا ) أي:يا حسرتنا وويلنا على ما فرطنا في أعمارنا ( مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ) أي:لا يترك ذنبا صغيرا ولا كبيرا ولا عملا وإن صغر ( إلا أحصاها ) أي:ضبطها ، وحفظها .
وروى الطبراني ، بإسناده المتقدم في الآية قبلها ، إلى سعد بن جنادة قال:لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة حنين ، نزلنا قفرا من الأرض ، ليس فيه شيء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اجمعوا ، من وجد عودا فليأت به ، ومن وجد حطبا أو شيئا فليأت به . قال:فما كان إلا ساعة حتى جعلناه ركاما ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أترون هذا ؟ فكذلك تجمع الذنوب على الرجل منكم كما جمعتم هذا . فليتق الله رجل ولا يذنب صغيرة ولا كبيرة ، فإنها محصاة عليه "
وقوله:( ووجدوا ما عملوا حاضرا ) أي:من خير أوشر كما قال تعالى:( يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ) [ آل عمران:30] ، وقال تعالى:( ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر ) [ القيامة:13] وقال تعالى:( يوم تبلى السرائر ) [ الطارق:9] أي:تظهر المخبآت والضمائر .
قال الإمام أحمد:حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة ، عن ثابت ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لكل غادر لواء يوم القيامة [ يعرف به ".
أخرجاه في الصحيحين ، وفي لفظ:"يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة] عند استه بقدر غدرته ، يقال:هذه غدرة فلان بن فلان "
وقوله:( ولا يظلم ربك أحدا ) أي:فيحكم بين عباده في أعمالهم جميعا ، ولا يظلم أحدا من خلقه ، بل يعفر ويصفح ويرحم ويعذب من يشاء ، بقدرته وحكمته وعدله ، ويملأ النار من الكفار وأصحاب المعاصي ، [ ثم ينجي أصحاب المعاصي] ويخلد فيها الكافرون وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم ، قال تعالى:( إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ) [ النساء:40] وقال:( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ) [ الأنبياء:47] والآيات في هذا كثيرة .
وقال الإمام أحمد:حدثنا يزيد ، أخبرنا همام بن يحيى ، عن القاسم بن عبد الواحد المكي ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، أنه سمع جابر بن عبد الله يقول:بلغني حديث عن رجل سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاشتريت بعيرا ثم شددت عليه رحلي ، فسرت عليه شهرا ، حتى قدمت عليه الشام ، فإذا عبد الله بن أنيس فقلت للبواب:قل له:جابر على الباب . فقال:ابن عبد الله ؟ فقلت:نعم . فخرج يطأ ثوبه ، فاعتنقني واعتنقته ، فقلت:حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص ، فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه فقال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"يحشر الله عز وجل الناس يوم القيامة - أو قال:العباد - عراة غرلا بهما "قلت:وما بهما ؟ قال:"ليس معهم شيء ثم يناديهم بصوت يسمعه من بعد ، كما يسمعه من قرب:أنا الملك ، أنا الديان ، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار ، وله عند أحد من أهل الجنة حق ، حتى أقصه منه ، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ، وله عند رجل من أهل النار حق ، حتى أقصه منه حتى اللطمة ". قال:قلنا:كيف ، وإنما نأتي الله - عز وجل - حفاة عراة غرلا بهما ؟ قال:بالحسنات والسيئات ".
وعن شعبة ، عن العوام بن مزاحم ، عن أبي عثمان ، عن عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة "رواه عبد الله بن الإمام أحمد وله شواهد من وجوه أخر ، وقد ذكرناها عند قوله:( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا ) [ الأنبياء:47] وعند قوله تعالى:( إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ) [ الأنعام:38]