هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم ، فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه ، وأن يغضوا أبصارهم عن المحارم ، فإن اتفق أن وقع البصر على محرم من غير قصد ، فليصرف بصره عنه سريعا ، كما رواه مسلم في صحيحه ، من حديث يونس بن عبيد ، عن عمرو بن سعيد ، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير ، عن جده جرير بن عبد الله البجلي ، رضي الله عنه ، قال:سألت النبي صلى الله عليه وسلم ، عن نظرة الفجأة ، فأمرني أن أصرف بصري .
وكذا رواه الإمام أحمد ، عن هشيم ، عن يونس بن عبيد ، به . ورواه أبو داود والترمذي والنسائي ، من حديثه أيضا . وقال الترمذي:حسن صحيح . وفي رواية لبعضهم:فقال:"أطرق بصرك "، يعني:انظر إلى الأرض . والصرف أعم; فإنه قد يكون إلى الأرض ، وإلى جهة أخرى ، والله أعلم .
وقال أبو داود:حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري ، حدثنا شريك ، عن أبي ربيعة الإيادي ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي:"يا علي ، لا تتبع النظرة النظرة ، فإن لك الأولى وليس لك الآخرة "
ورواه الترمذي من حديث شريك ، وقال:غريب ، لا نعرفه إلا من حديثه .
وفي الصحيح عن أبي سعيد قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إياكم والجلوس على الطرقات ". قالوا:يا رسول الله ، لا بد لنا من مجالسنا ، نتحدث فيها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن أبيتم ، فأعطوا الطريق حقه ". قالوا:وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال:"غض البصر ، وكف الأذى ، ورد السلام ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ".
وقال أبو القاسم البغوي:حدثنا طالوت بن عباد ، حدثنا فضل بن جبير:سمعت أبا أمامة يقول:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"اكفلوا لي بست أكفل لكم بالجنة:إذا حدث أحدكم فلا يكذب ، وإذا اؤتمن فلا يخن ، وإذا وعد فلا يخلف . وغضوا أبصاركم ، وكفوا أيديكم ، واحفظوا فروجكم ".
وفي صحيح البخاري:"من يكفل لي ما بين لحييه وما بين رجليه ، أكفل له الجنة ".
وقال عبد الرزاق:أنبأنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة قال:كل ما عصي الله به ، فهو كبيرة . وقد ذكر الطرفين فقال:( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ) .
ولما كان النظر داعية إلى فساد القلب ، كما قال بعض السلف:"النظر سهام سم إلى القلب "; ولذلك أمر الله بحفظ الفروج كما أمر بحفظ الأبصار التي هي بواعث إلى ذلك ، فقال:( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ) . وحفظ الفرج تارة يكون بمنعه من الزنى ، كما قال ( والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين ) [ المعارج:29 ، 30] وتارة يكون بحفظه من النظر إليه ، كما جاء في الحديث في مسند أحمد والسنن:احفظ عورتك ، إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك ".
( ذلك أزكى لهم ) أي:أطهر لقلوبهم وأنقى لدينهم ، كما قيل:"من حفظ بصره ، أورثه الله نورا في بصيرته ". ويروى:"في قلبه ".
وقد قال الإمام أحمد:حدثنا عتاب ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، أخبرنا يحيى بن أيوب ، عن عبيد الله بن زحر ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة [ أول مرة] ثم يغض بصره ، إلا أخلف الله له عبادة يجد حلاوتها ".
وروي هذا مرفوعا عن ابن عمر ، وحذيفة ، وعائشة ، رضي الله عنهم ولكن في إسنادها ضعف ، إلا أنها في الترغيب ، ومثله يتسامح فيه .
وفي الطبراني من طريق عبيد الله بن زحر ، ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة مرفوعا:"لتغضن أبصاركم ، ولتحفظن فروجكم ، ولتقيمن وجوهكم - أو:لتكسفن وجوهكم ".
وقال الطبراني:حدثنا أحمد بن زهير التستري قال:قرأنا على محمد بن حفص بن عمر الضرير المقرئ ، حدثنا يحيى بن أبي بكير ، حدثنا هريم بن سفيان ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن النظر سهم من سهام إبليس مسموم ، من تركه مخافتي ، أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه ".
وقوله:( إن الله خبير بما يصنعون ) ، كما قال تعالى:( يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ) [ غافر:19] .
وفي الصحيح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كتب على ابن آدم حظه من الزنى ، أدرك ذلك لا محالة . فزنى العينين:النظر . وزنى اللسان:النطق . وزنى الأذنين:الاستماع . وزنى اليدين:البطش . وزنى الرجلين:الخطي . والنفس تمنى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه ".
رواه البخاري تعليقا ، ومسلم مسندا من وجه آخر بنحو ما تقدم .
وقد قال كثير من السلف:إنهم كانوا ينهون أن يحد الرجل بصره إلى الأمرد . وقد شدد كثير من أئمة الصوفية في ذلك ، وحرمه طائفة من أهل العلم ، لما فيه من الافتتان ، وشدد آخرون في ذلك كثيرا جدا .
وقال ابن أبي الدنيا:حدثنا أبو سعيد المدني ، حدثنا عمر بن سهل المازني ، حدثني عمر بن محمد بن صهبان ، حدثني صفوان بن سليم ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كل عين باكية يوم القيامة ، إلا عينا غضت عن محارم الله ، وعينا سهرت في سبيل الله ، وعينا يخرج منها مثل رأس الذباب ، من خشية الله ، عز وجل ".