من أهداف الإسلام ،النفاذ إلى داخل الإنسان لتزكية روحه ،وتربية شخصيته عبر تثبيت خط الاستقامة في حياته ،بحيث يصبح التزامه بذاك الخط جزءاً من تركيبته الداخلية ،فتتأتى عنه الأفعال بطريقةٍ عفوية ،لا نتيجة حالات التزام طارئة تضغط على حركته تارةً ،وتخفف عنه أخرى ..ولذلك كان التشريع خاضعاً لخطّةٍ متنوعة الأحكام ،متعددة المواقع ،هدفها الإحاطة بالإنسان من جميع أبعاده ،ليستقيم له الخط ،وتتعمق التجربة ،فتتحرك الفكرة العامة من موقع القوّة ..
لذا جعل علاقة الرجل بالمرأة ،وعلاقتها به ،محكومةً لقواعد دقيقة ،تضبط الأوضاع المثيرة للشهوة ،وحركة الغريزة في الجسد ،كي تكون العلاقة بينهما طبيعية نظيفةً ،تدخل ضمن النطاق الأخلاقي الواسع لنظافة الروح والجسد ،على أساس مبدأ العفّة في شخصيتهما الذي يتشكّل تحت تأثير الممارسة التي تحرك الفكرة في الذات ،وتحقق المناعة في الحركة ..
وقد جاءت هذه الآيات لتتحدث عن موضوعين مهمّين في هذا المجال ،وهما موضوع النظر ،وإظهار الزينة ،لما لهما من تأثير على إثارة المشاعر الغريزية ،فإن النظرة قد تعكس الانجذاب الغريزي ،فهي تغذي الخيال ،وتثير الريبة ،وتحرّك الأحاسيس في اتجاه الانحراف ،لأن ما يراه الإنسان من صور قريبة من الحسّ ،مثيرة لحرارة الغريزة ،يتفاعل مع العوامل الخفية في الإنسان ذاته ويؤثر عليه سلباً ..
أما إبداء الزينة ،فإنه يهيىء الجو النفسي للإغراء الذاتي من قِبَل المرأة في ما يثيره في داخلها من شعور بالجانب الجماليّ في جسدها ،وبالقيمة الكبيرة لما تملكه من مفاتن مثيرةٍ ،تجتذب إعجاب الرجل ،وتثير غرائزه ،ما يجعل الجانب الأنثويّ في حياة المرأة ،في موقع الأهمية الكبيرة من شخصيتها ،إذ يؤمن لها الحصول على الموقع المميز في قلب الرجل ،أو في حياته ..ويؤدي ذلك بها إلى مراقبة حالات الانفعال بجمالها ،ليتحول ذلك لديها إلى حركةٍ متنوّعةٍ في وسائل الإغواء التي تلتقي بالإلحاح على الاهتمام بزينتها وتحريك غريزتها ..وبذلك تفقد الاهتمام بالجوانب الأخرى من شخصيتها ،ما ينعكس سلباً على حياة المجتمع المسلم وعلى السلوك الأخلاقي العام .
اعتراضات وردود
وقد يرى البعض في أن ذلك كله معناه أن الإسلام يحاول اضطهاد المرأة بإلغائه شخصيتها الأنثوية ذات الأصالة والعمق فيها ،وحدّ حريتها في التعبير عن تلك الشخصية بإظهار زينتها التي وهبها الله لها كنعمةٍ من نعمه الكبيرة على الإنسان ،كما أنه يريد للرجل والمرأة أن يعيشا الكبت أمام مواقع الجمال في الحياة ،ما يخلق لديهما عقدةً مستعصية ،كما هي حال الإنسان أمام كثير من حالات الحرمان والكبت .
ويعتبر هذا البعض أن في منع إظهار الزينة وتحريم النظر إليها خوفاً غير مبرر من الجمال ،الذي هو مظهر من مظاهر قدرة الله في خلقه ،ونعمةٌ من نعمه على الإنسان والحياة .وقد يضيف هذا البعض ،أن قيمة العفّة هي في عدم سقوط الإنسان أو انحرافه أمام مواقع الإثارة الغريزية التي يحملها الجمال الجسدي ،بما يملكه من قوة أخلاقية تجعله يواجه ذلك كله بشكلٍ طبيعيّ ..وليست العفة في الهروب من تلك المواقع ،لأن الهروب يعكس ضعفاً ذاتياً أمام عناصر الانحراف ،ما يعني أن القوّة لا تتحرك إلا في الابتعاد عن المشكلة ،لا في مواجهتها ..إن وجود القاعدة الأخلاقية في الإنسان ،يعني أن يقترب من المحرقة ولا يحترق ،لا أن يهرب بعيداً عنها ..
والجواب عن ذلك كله: إن الإسلام لا يريد تحطيم شخصية المرأة الأنثوية ،بل يحاول تأكيدها كحالةٍ إنسانيةٍ طبيعيةٍ ،متصلة بامتداد الإنسان في الحياة ،وتلبية حاجاته الغريزية في الجنس ،كما هو الحال في الأكل والشرب ونحوهما ،ما يفرض أكثر من حاجةٍ للإثارة لدى الرجل والمرأة معاً ،على مستوى المشاعر الروحية التي يعيشها كل منهما في حركة العلاقة ،واللذات الحسية التي يحصلان عليها في نداء الغريزة ..
ولكن الإسلام يريد للجانب الأنثوي في المرأةكما يريد للجانب الذكوري في الرجلأن لا يلغي بقية جوانب شخصيتها ويجعل الحياة كلها في خدمته ،فتتحرك المرأة في المجتمع بروحية الأنثى التي تبحث عن كل ما يثيرها أو تثيره ،ويتحرك الرجل بروحية الذكر الذي يبحث عن الإثارة الجنسية فقط ،بل يريد لهذا الجانب الخاص في كل منهما ،أن يتحرك في دائرة العلاقة الزوجية ،التي تقوم على الاختيار الحرّ للشريك المناسب سلوكياً وجمالياً ونفسياً ،ليستطيع معه إشباع جوع الغريزة وإرضاء نزعة الأمومة والأبوّة في الإنسان ،وتهيئة الجو المناسب للمشاركة الروحية العاطفية بأكثر من أسلوب .
إن الإسلام يطرح الزواج كقاعدة شرعية للعلاقات الجنسية ،وللتنفيس عن حاجة الذكورة والأنوثة إلى الانفتاح على هذا الجانب المهمّ من الحياة ،ويرى المجتمع النسائي ساحة تستطيع المرأة فيها أخذ حريتها في إبداء الزينة ،وإرضاء نزعتها إلى إظهار جمالها الجسدي ،والحصول من خلال ذلك على الإشباع الذاتي على هذا المستوى ..ولكنه لم يفسح المجال لها للانطلاق في الحياة العامة من موقعها الأنثوي ،ولم يفسح للرجل الحرية في الاستمتاع الحرّ ،ولو من ناحية النظر ،بجمال المرأة ،لأن ذلك يسيء إلى هدوء الحالة النفسية المتوازنة ،ويجعل المسألة تتحوّل إلى ما يشبه الفوضى الجنسية في نهاية المطاف .
أما حكاية العقد النفسية الناشئة من ذلك ،ومسألة التساؤل عن سبب الخوف من الجمال الذي هو مظهر القدرة والنعمة الإلهية ،وقضية اعتبار العفة موقفاً في داخل التجربة لا في خارجها ،فقد يكفي في مواجهتها الإشارة إلى نقطةٍ مهمَّة ،وهي أن العقدة في الذات ،تنشأغالباًمن الاستغراق العميق في الأشياء الممنوعة ،أو المرغوبة غير المقدورة ،ما يؤدّي إلى نوع من الصراع العنيف في الداخل ،بين الشريعة أو الواقع ،وبين الرغبة أو الحاجة ،فتتحول الحالة الشعورية المعقدة الحائرة بين مواقع الشدّ والجذب ،إلى عقدة نفسيَّة تخنق طمأنينة الذات .
من هنا ،يمتنع تحويل التحريم إلى عقدة ،وذلك عندما يقف الإنسان أمام المحرّمات الشرعية ،فيعيش الجوّ الإيمانيّ الذي يفتح قلبه وعقله على الله في آفاق رضوانه ،على أساس حاجة الإنسان إلى رعايته ،كحاجته إليه في وجوده ،وشعوره بمعرفته بما يصلحه وما يفسده أكثر من معرفته ذلك من نفسه ..ثم إن المقارنة الفكرية الإيمانية بين المصلحة العامة التي لا تبتعد في كثير من آفاقها عن صالح الإنسان الفرد ،وبين المصلحة الخاصة التي قد تلبي رغبته من جهة ،ولكنها تصدم كثيراً من الرغبات الأكثر أهمية وإلحاحاً من جهة أخرى ،إن هذه المقارنة ستربطه بالواقع ،وتفتح عينيه على النتائج السلبية والإيجابية لمواقع الاختيار فيه إلى أن يكوّن قناعةً نفسية ،بالمضمون الاجتماعي المنفتح على الحياة ،في موقع التحريم ،فلا يترك الامتناع عنه إلاَّ بعض الآثار الخفيفة التي تمرّ في منطقة الحس والشعور مروراً عابراً .
أما حكاية الجمال وتفاعله في الذوق الإنساني الفني أو الجمالي ،فلا تنحصر في هذه الدائرة الخاصة ،حيث يختلط الذوق بالغريزة ،والشعور الفني بالمشاعر الجنسية ،الأمر الذي ينعكس سلباً على السلامة الاجتماعية على مستوى المبادىء العامة ،ويجعل الحفاظ على القضية العامة مسؤولية التشريع في تخفيف عوامل الانحراف من ساحات الواقع ،وتضييق الدوائر المعقّدة التي تسيء إلى النظام الأخلاقي العام .
إن الفن والجمال لا يمثلان قيمةً مطلقةً في نظر الإسلام ،بل يمثلان موقعين من مواقع الإبداع الذي يطلّ بالإنسان على الله وعلى الحياة من القاعدة الروحية الأخلاقية ،ولا يقترب به من الساحات التي تهتز فيها هذه القاعدة تماماً ككل الأشياء الحلوة في الحياة التي لا بد للإنسان من أن يتذوق حلاوتها المعنوية والمادية ،بالطريقة التي لا تؤدي إلى سقوطه .
إن النظرة إلى الحياة لا يمكن أن تتحرك من مواقع المطلق في تقييم مفرداتها ومعطياتها ،لأن الحياة لا تختزن المطلق في وجودها ،بل تنطلق من خلال الحدود الموضوعة في أكثر من ساحة .لذا لا بد من مواجهة كل القضايا على الطريقة النسبية التي توازن بين حدّ وحدّ ،في تأثيره الإيجابي والسلبي على القضايا الكبرى في الحياة .وعلى ضوء هذا ،فإن على الفن أو الجمال ،أو المفردات الأخرى التي يحتويها الوجود ،أن تكون في خدمة النظام العام للإنسان ،بدلاً من أن يكون النظام في خدمتها ،لأن ذلك يسيء إلى تناسق الفن ،وجمالية الجمال ،في ما قد يؤدي إلى تشويهٍ للصورة ،وقبحٍ في الواقع .
أما حكاية العفة في داخل التجربة لا في خارجها ،فهو أمرٌ صحيح ،ولكن لا بد من التربية التي تمنع الإنسان من السقوط في المحرقة ،ومن إسقاط التجربة ..
إن القيود الشرعية في دائرة العلاقات الإنسانية ،تستهدفدائماًحماية الأجواء العامة من كل النتائج السلبية التي يمكن لها أن تحرك هذه العلاقات في دائرة الاهتزاز ،لا من موقع الثبات ،الأمر الذي يزيدها مناعة وقدرةً على مواجهة كل الضغوط القاسية التي تختزن الرياح المجنونة في أكثر من أفق .ولهذا فإنها تنطلق في اتجاه تعميق التجربة في داخل الذات ،لا في اتجاه الهروب منها .
وهكذا نصل في ختام هذا العرض إلى نتيجة حاسمة ،وهي أن الأحكام المتعلقة بالنظر ،وبإبداء زينة المرأة ،ترتبط ارتباطاً تاماً بالفكرة العامة التي يريد الإسلام أن يثيرها في حياة الإنسان من أجل علاقةٍ نظيفة ،وشخصية زكيّة ،وسلوك متوازن ،في مجتمع الرجل والمرأة ،فلا يجوز النظر إلى هذه التشريعات بشكل مجرد لفصلها عمّا ترتبط به عضوياً من أشياء ،تماماً كما في أية دراسة علمية لأيّ حكم إسلامي شرعي ،فإنه لا بد من التعرف على الدائرة التي يرتبط بها ويتحرك فيها من أجل فهم الخط العام الذي ينطلق فيه ويسير معه .
غض البصر
{قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ} .ذكر أكثر المفسرين أن الأمر بالغضّ هنا يعني ترك النظر رأساً ،وربما احتمل البعض أن يكون كناية عن خفض النظر بحيث لا يملأ الناظر عينيه بما ينظر إليه ،وذلك لما ذكره البعض من أن غض البصر هو كسره في مقابل ما ذكره آخرون من أنه عبارة عن إطباق الجفن على الجفن ،ما يمنع النظر رأساً .وقد يوحي الحديث الوارد في سبب النزول بالمعنى المشهور ،فقد جاء في الكافي بإسناده عن سعد الإسكاف عن أبي جعفر ( ع ) قال: استقبل شابٌّ من الأنصار امرأةً بالمدينة ،وكان النساء يتقنّعن خلف آذانهن ،فنظر إليها وهي مقبلة ،فلما جازت نظر إليها ودخل في زقاق قد سمّاه ببني فلان ،فجعل ينظر خلفها ،واعترض وجهه عظمٌ في الحائط أو زجاجة ،فشق وجهه ،فلما مضت المرأة نظر فإذا الدماء تسيل على صدره وثوبه ،فقال: والله لآتين رسول الله ( ص ) ولأخبرنّه .قال: فأتاه ،فلما رآه رسول الله ( ص ) قال له: ما هذا ؟فأخبره ،فهبط جبرئيل بهذه الآية:{قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} .
ولكن قد يخطر في الذهن أن جوّ القصة يوحي بأن الشاب كان ينظر بملء عينيه بطريقة مشبعةٍ بالاشتهاء والالتذاذ ،مما لا يقتضي أن يكون المطلوب هو ترك النظر ،بل خفض البصر وكسره ،بحيث لا يمثل التحديقة الواسعة التي تدرس تفاصيل الجسد ومواضع الفتنة فيه ،ويكون معنى الآية كنايةً عن ترك النظر بشهوة ،أو بامتلاء ..
وقد نستطيع تأكيد هذا الوجه بالتعمّق في مدلول كلمة"مِنْ "الظاهرة في التبعيض ،ما يجعل المطلوب غضّ بعض البصر لا جميعه ،وذلك لأن مقابلة الجمع بالجمع في قوله:{يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ} تقتضي التوزيع على الأفراد ،بحيث يكون المعنى: ليغض كل واحدٍ من بصره ،لا بصره كلّه .وقد ذكر بعضهم ،أن مفاد التبعيض يتصل بموضوع النظر ،لا بطبيعته ،أي: غضّ النظر عما يحرم والاقتصار على ما يحلّ ،ولكنه خلاف الظاهر ،لأن المتبادر من كلمة البصر العين ،وبذلك يكون التبعيض متصلاً بها ،لا بما تتوجه إليه أو تنظر إليه ،وجوّز الأخفشفي ما نقله صاحب الكشافأن تكون مزيدة ،وأباه سيبويه .ولعله هو الصحيح ،لأن الزيادة لا دليل عليها ..
وذكر صاحب تفسير الميزان ،أن كلمة ( من ) لابتداء الغاية لا مزيدة ،ولا للجنس ،ولا للتبعيض ،كما قال بكل قائل ،والمعنى: يأتوا بالغض آخذاً من أبصارهم .وهو خلاف الظاهر ،لأن الآية مسوقة للحديث عن طبيعة النظر لا عن الابتداء والغاية .
وعلى ضوء ذلك ،فإن الآية ظاهرة في ترك تعمّد النظر إلى ما يواجهه الإنسان من الأشياء المحرّمة عليه ،ما يجعله لا يواجه الأشياء البارزة أمامه منها ومما يلتقي بها بطريق الصدفة ،بالتحديقة المملوءة ،بل بكسر النظر عنها ،والانصراف عن التعمق في تفاصيلها .
خلافٌ في مدلول الآية
وهناك خلاف آخر في مدلول الآية ،وهو في ظهورها في إطلاق المتعلّق ،حيث يحرم النظر إلى أجساد المؤمنات بشكل مطلق يشمل كل أجزاء الجسد ،لأن حذف المتعلق يفيد العموم ،لا سيّما إذا لاحظنا أن إرادة طبيعة المبدأ في نفسه لا تتفق مع ورود الفقرة في مقام الإفادة لحركة التكليف في أفعال المؤمنين ،إذ لا فائدة من الحديث عن وجوب الغض ،بعيداً عن الحديث عن المتعلق ..
وقد يرى هؤلاء أنّ توجه الأمر بالغضّ للمؤمنين هنا ،وللمؤمنات هناك ،يجعل الدلالة واضحة بأن على المؤمنين أن يغضوا أبصارهم عن المؤمنات ،وعلى المؤمنات أن يغضضن أبصارهن عن المؤمنين ،فيكون المتعلق مذكوراً من خلال المقابلة ،بحيث يفيد العموم في الطرفين .
ولكن هناك وجهة نظر أخرى ،وهي أن من الممكن أن تكون الآية واردةً في تقرير المبدأ كمدخل للحديث عن التشريع ،على أن يأتي الحديث عن التفاصيل في مواقع أخرى من الكتاب ،باستيحاء ذلك من حرمة إبداء الزينة مثلاً ،باعتبار أن ما حرم على المرأة إبداؤه ،يحرم على الرجال النظر إليه ،أو من خلال ظهور ذلك في كونه من حرمات المرأة التي لا يجوز التعدي عليها من قِبَل الرجال ،أو من السنّة من خلال ما فصله النبي محمد ( ص ) من المواضع التي يحرم النظر إليها من جسد المرأة ،أو من جسد الرجل ،ولعل هذا ما أشار إليه بعض المفسرين في قولهم بظهورها في وجوب الغض عما يحرم والاقتصار بالنظر على ما يحلّ ،وذلك بلحاظ استفادة ذلك من الأدلة الخاصة ،وبذلك لا يكون حذف المتعلق مفيداً للعموم ،كما أنّ المقابلة بين المؤمنين والمؤمنات في التكليف ،لا يظهر منه أن كل واحدٍ من الفريقين هو المقصود بموضع النظر مطلقاً ،وربما جاءت بعض الأخبار الدالّة على أن متعلق وجوب الغضّ هو الفروج ،كما ورد في الكافي في روايته عن الإمام جعفر الصادق ( ع ) من قولهفي مقام التفسير:فنهاهم أن ينظروا إلى عوراتهم وأن ينظر المرء إلى فرج أخيه ..
وقد يتأيد ذلك بأن ذكر المتعلق في الجملة الثانية ،يدلّ على أنه هو المقصود من الجملة الأولى التي حذف فيها المتعلق ..
حفظ الفروج
{وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} الظاهر من حفظ الفرج هو حفظه من الزنى ،ولكن وردت الأحاديث المتفرقة بأن المراد به هنا هو حفظه من النظر ،كما جاء الحديث عن الإمام جعفر الصادق ( ع ) قال: كل شيء في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنى إلا هذه الآية ،فإنها من النظر .وروي ذلك عن ابن زيدفي ما نقله عنه صاحب الكشافقال: كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنى إلا هذا فإنه أراد به الاستتار .
وهو أمر قريب ،توحي به أجواء هذا الفصل من السورة ،الذي يدور الحديث فيه عن قضايا الستر والنظر ،في ما يأتي من تفاصيل الستر الذي أراده الله للمرأة ،ما يجعل المسألة في هذا المجال غير بعيدة عن ذلك ،فتكون هذه الآية وما بعدها بياناً لما يجب أن يغضّ البصر عنه ،وما يجب أن يستره عن النظر ،لا سيّما إذا عرفنا أن حفظ العورة عن النظر واجب على الرجل والمرأة ،سواء كان الناظر رجلاً أو امرأةً ،كما أن النظر إلى العورة محرّم على الرجل والمرأة للمماثل ولغيره ؛والله العالم .
{ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} ،لأن ذلك ما يحفظ لهم طهارة الروح والجسد ،بالابتعاد عن العوامل المثيرة للغريزة التي قد تؤدي إلى الانحراف ،لأن الاقتراب من عناصر الاحتراق قد يدفع في كثير من الحالات إلى الوقوع في المحرقة .{إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} في ما يقومون به من أعمال الانحراف ،وعلى هذا الأساس ،فإن عليهم أن يستشعروا رقابة الله عليهم ،حتى لا يشعروا بالأمن إذا كانوا في غفلةٍ عن أعين الناس ،لأن عين الله لا تغيب عن شيء ،ولا يغيب عنها شيء .