غض البصر:
{قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ( 30 )} .
التفسير:
30- قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ .
سلك القرآن مسلك التربية السليمة في الحفاظ على سلامة الأنفس والأعراض ،واستقرار النفوس ،وسلامة الوجدان ،وقد أمر الله المؤمنين بغض البصر عن المحرمات ،وحفظ الفروج عن الزنا ،وهذا أطهر للنفوس وأدعى إلى السعادة والعزة .فمن أطاع الله ؛أطاع الله له كل شيء ،ومن أعرض عن طريق الله ؛غلبته شهواته ،وتحكمت فيه نزواته .
ومما يتعلق بهذه الآية ما يأتي:
1 – للعلماء كلام طويل في فوائد غض البصر ،فالنظر هو النافذة التي تربط الإنسان بالحياة ،والحياة بالإنسان ،فإذا استقام القلب عف البصر ،وإذا غض المؤمن بصره استقام قلبه ،قال الشاعر:
كل الحوادث مبداها من النظر *** ومعظم النار من مستصغر الشرر
والمرء ما دام ذا عين يقبلها *** في أعين العين موقوف على الخطر
كم نظرة فعلت في قلب فاعلها *** فعل السهام بلا قوس ولاوتر
يسر ناظره ما ضر خاطره *** لا مرحبا بسرور عاد بالضرر
2 – غض البصر: إطباق الجفن على الجفن ،أو خفض الجفن الأعلى وإرخاؤه .ومن الثاني قول كعب ابن زهير:
وما سعاد غداة البين إذا رحلوا *** إلا أغن غضيض الطرف مكحول
فلا يريد أنها مغمضة عينها مطبقة أجفانها ،بل أنها خافضة الطرف من الحياء والخفر ،ويقال: غض بصره ،يغضه ،غضا ،قال الشاعر:
فغض الطرف أنك من نمير *** فلا كعبا بلغت ولا كلابا
وقال عنترة:
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
ولم يذكر الله ما يغض البصر عنه ،ويحفظ الفرج ،غير أن ذلك معلوم بالعادة ،وأن المراد منه المحرم دون المحلل121 .وفي البخاري: وقال سعيد بن أبي الحسن للحسن: إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورءوسهن ؟قال: اصرف بصرك ،يقول الله تعالى: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ... 122 .
3 – معنى الغض في اللغة: النقص والخفض والوضع ،فيقال: غض من قدره ،أي: خفض ونقص ووضع قدره ،وغض الغصن أي: كسره123 .والمراد بغض البصر في الآية: ألا ينظر بملء العين ،وأن يكف النظر عما لا يحل له ،بخفضه إلى الأرض أو بصرفه إلى جهة أخرى ،وكلمة: من .في: من أبصارهم .للتبعيض ،أي: أن الله تعالى لا يأمركم بصرف كل نظر من أنظاركم ،وإنما يأمركم بصرف بعضها ،والمراد: صرف نظر الرجال إلى النساء ،أو إلى عورات غيرهم ،أو إلى المناظر الفاحشة ،فلا يحل لرجل أن ينظر إلى امرأة غير زوجته أو محارمه من النساء ،أما النظرة المفاجئة مرة واحدة فلا مؤاخذة عليها .
قال صاحب الكشاف:
إنما دخلت من .في غض البصر دون حفظ الفرج ،للدلالة على أن أمر النظر أوسع ،ألا ترى أن المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهن وصدورهن وثديهن وأعضائهن وسوقهن وأقدامهن ،وكذلك الجواري المستعرضات للبيع ،وأن الأجنبية ينظر إلى وجهها وكفيها ،وأما أمر الفرج فمضيق ،وكفاك فرقا أن أبيح النظر إلا ما استثنى منه .
وقد اختلف في المراد بحفظ الفرج ،فقيل: إن معناه تجنب الزنا واللواطة ،وقيل: إن المراد ستره ،فلا يحل للمؤمن أن يكشف عن سوأته ،ولا أن يلبس لباسا رقيقا يشف عما تحته ويبين عورته ،ولا مانع من إرادة المعنيين جميعا124 .
4 – قال القرطبي في تفسيره:
البصر هو الباب الأكبر إلى القلب ،وأعمر طرق الحواس إليه ،وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته ،ووجب التحذير منه ،وغضه واجب عن جميع المحرمات ،وكل ما يخشى الفتنة من أجله ،وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ( إياكم والجلوس على الطرقات ) فقالوا: يا رسول الله ،مالنا من مجالسنا بد نتحدث فيها ،فقال: ( فإن أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه ) .قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله ؟قال: غض البصر ،وكف الأذى ،ورد السلام ،والأمر بالمعروف ،والنهي عن المنكر )125 رواه أبو سعيد الخدري ،وأخرجه البخاري ومسلم .
وفي صحيح مسلم عن جرير بن عبد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن نظرة الفجاءة ؛فأمرني أن أصرف بصري .وهذا يقوى قول من يقول: إن من .للتبعيض ،لأن النظرة الأولى لا تملك فلا تدخل تحت خطاب تكليف ،إذ وقوعها لا يتأتى أن يكون مقصودا ،فلا تكون مكتسبة ،فلا يكون مكلفا بها فوجب التبعيض لذلك ،ولم يقل ذلك في الفرج ،لأنه يملك .
ولقد كره الشعبي أن يديم الرجل النظر إلى ابنته أو أمه أو أخته ،وزمانه خير من زماننا هذا ،وحرام على الرجل أن ينظر إلى ذات محرم نظرة شهوة يرددها126 .
5 – من أدب النبوة:
حفلت كتب السنة المطهرة بتوجيهات النبي صلى الله عليه وآله وسلم للمؤمنين والمؤمنات بغض البصر والعفة والنزاهة ،وقد أورد ابن كثير وغيره من المفسرين طائفة من هذه الأحاديث ،ومنها ما يأتي:
عن بريدة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( يا علي ،لا تتبع النظرة النظرة ؛فإن لك الأولى وليس لك الأخرى )127 .رواه الترمذي ،وأحمد ،وأبو داود ،والدارمي .وعن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( يقول الله عز وجل: إن النظر سهم من سهام إبليس مسموم ،من تركه مخافتي أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه )128 أخرجه الطبراني .
وعن أبي أمامة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثم يغض بصره ؛إلا أخلف الله له عبادة يجد حلاوتها )129 رواه الإمام أحمد في مسنده .
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك )130 ،أخرجه أحمد ،وأصحاب السنن وعن عبد الله بن عباس قال: كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجاءته امرأة من خثعم تستفتيه ؛فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه ،فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر131 رواه البخاري ،والترمذي ،وأبو داود .
6 – هذا الأمر بغض البصر قد استثنيت منه صور تعرض للإنسان فيها حاجة حقيقية للنظر إلى وجه المرأة ،فإذا أراد مثلا أن ينكح امرأة ،فليس له أن ينظر إليها فحسب ،بل هو مستحب له على الأقل ،فعن المغيرة بن شعبة قال: خطبت امرأة ،فقال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( نظرت إليها ) ؟قلت: لا .قال: ( فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما )132 .رواه مسم ،والترمذي ،والنسائي ،وابن ماجة ،والدارمي .
وعن أبي هريرة – رضي اله عنه – أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار ،فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا )133 .
وعن أبي حميد أنه – عليه الصلاة والسلام – قال: إذا خطب أحدكم المرأة فلا جناح عليه أن ينظر إليها ،إذا كان إنما ينظر للخطبة )134 .رواه أحمد .
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( إذا خطب أحدكم المرأة فقدر أن يرى منها بعض ما يدعو إلى نكاحها فليفعل )135 رواه أبو داود ،وأحمد .
ومن هنا أخذ الفقهاء ،أن هناك صورا أخرى يجوز فيها للرجل أن ينظر إلى وجه المرأة ،كالنظر إلى امرأة مشتبهة عن تحقيق الجرائم ،أو نظر القاضي إلى وجه المرأة عند تحقيق الشهادة ،أو نظر الطبيب إلى وجه المرأة للمعالجة .
7 – من مقاصد الأمر بغض البصر ألا ينظر الإنسان إلى عورة غيره ،كما قال تعالى: ويحفظوا فروجهم ...وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ،ولا تنظر المرأة إلى عورة المرأة ) .رواه مسلم ،وأحمد ،وأبو داود ،والترمذي .وعن علي – رضي الله عنه – قال136: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( لا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت )137 رواه أبو داود ،وابن ماجة .
وقد مر بنا أن المراد بقوله تعالى: ويحفظوا فروجهم .البعد عن الزنا وما يلحق به ،أو عدم كشف العورة ،ولا مانع من إرادة المعنيين جميعا .
وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته ،كما صح عنه ذلك في رواية للدارقطني والبيهقي ،فلا يحل للرجل أن يكشف هذا الجزء من جسده إلا أمام زوجته .عن جرهد الأسلمي من أصحاب الصفة – رضي الله عنه – أنه قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عندنا وفخذي منكشفة ،فقال: ( أما علمت أن الفخذ عورة )138 ؟رواه أبو داود ،ومالك ،والترمذي .
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ( احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك ) فسأله السائل: يا رسول الله ،فإن كان أحدنا خاليا ؟قال: ( فالله – تبارك وتعالى – أحق أن يستحيى منه )139 رواه أبو داود ،والترمذي ،وابن ماجة140 .
تلك نظم الإسلام شرعها الله العليم بالنفس البشرية ،الخبير بما يناسبها .وفي العصر الحديث شاهدنا نظريات تشجع العرى والاختلاط ،والانطلاق وراء الغريزة ،وشاهدنا دولا تبنت هذه الأفكار والآراء ،ثم عادت تشكو من الإرهاق النفسي والحسي ،ومن كثرة الأمراض العصبية وغيرها .لأن الإنسان إنسان ،لا غنى له عن القيود والضوابط ،حتى يشبع غريزته في طريق مشروع ،فالإسلام لم يصدم الغريزة ،ولكنه هذبها ووضع لها الطرق السليمة ،التي تكفل إشباعها في الحلال وإبعادها عن الحرام ،وفي وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول القرآن:
وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ .( الأعراف: 157 ) .