هذه الآية الكريمة فيها أحكام كثيرة . منها:إطلاق النكاح على العقد وحده ، وليس في القرآن آية أصرح في ذلك منها ، وقد اختلفوا في النكاح:هل هو - حقيقة - في العقد وحده ، أو في الوطء ، أو فيهما ؟ على ثلاثة أقوال ، واستعمال القرآن إنما هو في العقد والوطء بعده ، إلا في هذه الآية فإنه استعمل في العقد وحده; لقوله:( إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن ) . وفيها دلالة لإباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها .
وقوله:( المؤمنات ) خرج مخرج الغالب; إذ لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في ذلك بالاتفاق . وقد استدل ابن عباس ، وسعيد بن المسيب ، والحسن البصري ، وعلي بن الحسين ، زين العابدين ، وجماعة من السلف بهذه الآية على أن الطلاق لا يقع إلا إذا تقدمه نكاح ; لأن الله تعالى قال:( إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن ) ، فعقب النكاح بالطلاق ، فدل على أنه لا يصح ولا يقع قبله . وهذا مذهب الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وطائفة كثيرة من السلف والخلف ، رحمهم الله تعالى .
وذهب مالك وأبو حنيفة ، رحمهما الله ، إلى صحة الطلاق قبل النكاح ; فيما إذا قال:"إن تزوجت فلانة فهي طالق ". فعندهما متى تزوجها طلقت منه . واختلفا فيما إذا قال:"كل امرأة أتزوجها فهي طالق ". فقال مالك:لا تطلق حتى يعين المرأة . وقال أبو حنيفة ، رحمه الله:كل امرأة يتزوجها بعد هذا الكلام تطلق منه ، فأما الجمهور فاحتجوا على عدم وقوع الطلاق بهذه الآية .
قال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن منصور المروزي ، حدثنا النضر بن شميل ، حدثنا يونس - يعني ابن أبي إسحاق - سمعت آدم مولى خالد ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال:[ إذا قال]:كل امرأة أتزوجها فهي طالق ، قال:ليس بشيء من أجل أن الله تعالى يقول:( يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن ) الآية .
وحدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، حدثنا وكيع ، عن مطر ، عن الحسن بن مسلم بن يناق ، عن ابن عباس قال:إنما قال الله تعالى:( إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن ) ، ألا ترى أن الطلاق بعد النكاح ؟!
وهكذا روى محمد بن إسحاق ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال:قال الله:( إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن ) فلا طلاق [ قبل النكاح] .
وقد ورد الحديث بذلك عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا طلاق لابن آدم فيما لا يملك ". رواه الإمام أحمد والترمذي ، وأبو داود ، وابن ماجه . وقال الترمذي:"هذا حديث حسن ". وهو أحسن شيء روي في هذا الباب . وهكذا روى ابن ماجه عن علي ، والمسور بن مخرمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا طلاق قبل نكاح ".
[ وفي الآية دليل على أن المسيس مطلق ، ويراد به الوطء] .
وقوله:( فما لكم عليهن من عدة تعتدونها ):هذا أمر مجمع عليه بين العلماء:أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول بها لا عدة عليها فتذهب فتتزوج في فورها من شاءت ، ولا يستثنى من هذا إلا المتوفى عنها زوجها ، فإنها تعتد منه أربعة أشهر وعشرا ، وإن لم يكن دخل بها بالإجماع أيضا .
وقوله:( فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا ):المتعة هاهنا أعم من أن تكون نصف الصداق المسمى ، أو المتعة الخاصة إن لم يكن قد سمى لها ، قال الله تعالى:( وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم ) [ البقرة:237] ، وقال ( لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين ) [ البقرة:236] .
وفي صحيح البخاري ، عن سهل بن سعد وأبي أسيد ; أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أميمة بنت شراحيل ، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها ، فكأنها كرهت ذلك ، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازقيين .
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما:إن كان سمى لها صداقا ، فليس لها إلا النصف ، وإن لم يكن سمى لها صداقا فأمتعها على قدر عسره ويسره ، وهو السراح الجميل .