ثم قال تعالى:( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) هذا تأديب من الله [ تعالى] لعباده المؤمنين ، ونهي لهم عن أن يسألوا ) عن أشياء ) مما لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها ; لأنها إن أظهرت لهم تلك الأمور ربما ساءتهم وشق عليهم سماعها ، كما جاء في الحديث:أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"لا يبلغني أحد عن أحد شيئا ، إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر ".
وقال البخاري:حدثنا منذر بن الوليد بن عبد الرحمن الجارودي ، حدثنا أبي ، حدثنا شعبة ، عن موسى بن أنس ، عن أنس بن مالك قال:خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - خطبة ما سمعت مثلها قط ، قال "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا "قال:فغطى أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجوههم لهم حنين . فقال رجل:من أبي؟ قال:"فلان "، فنزلت هذه الآية:( لا تسألوا عن أشياء )
رواه النضر وروح بن عبادة ، عن شعبة وقد رواه البخاري في غير هذا الموضع ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي من طرق عن شعبة بن الحجاج ، به .
وقال ابن جرير:حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله:( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) الآية ، قال:فحدثنا أن أنس بن مالك حدثه:أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألوه حتى أحفوه بالمسألة ، فخرج عليهم ذات يوم فصعد المنبر ، فقال:"لا تسألوا اليوم عن شيء إلا بينته لكم ". فأشفق أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكون بين يدي أمر قد حضر ، فجعلت لا ألتفت يمينا ولا شمالا إلا وجدت كلا لافا رأسه في ثوبه يبكي ، فأنشأ رجل كان يلاحى فيدعى إلى غير أبيه ، فقال:يا نبي الله ، من أبي؟ قال:"أبوك حذافة ". قال:ثم قام عمر - أو قال:فأنشأ عمر - فقال:رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد رسولا عائذا بالله - أو قال:أعوذ بالله - من شر الفتن قال:وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"لم أر في الخير والشر كاليوم قط ، صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط ". أخرجاه من طريق سعيد .
ورواه معمر ، عن الزهري ، عن أنس بنحو ذلك - أو قريبا منه - قال الزهري:فقالت أم عبد الله بن حذافة:ما رأيت ولدا أعق منك قط ، أكنت تأمن أن تكون أمك قد قارفت ما قارف أهل الجاهلية فتفضحها على رؤوس الناس ، فقال:والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته .
وقال ابن جرير أيضا:حدثنا الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا قيس ، عن أبي حصين ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال:خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو غضبان محمار وجهه حتى جلس على المنبر ، فقام إليه رجل فقال:أين أبي ؟ فقال:"في النار "فقام آخر فقال:من أبي؟ فقال:"أبوك حذافة "، فقام عمر بن الخطاب فقال:رضينا بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد نبيا ، وبالقرآن إماما ، إنا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك ، والله أعلم من آباؤنا . قال:فسكن غضبه ، ونزلت هذه الآية:( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) إسناده جيد .
وقد ذكر هذه القصة مرسلة غير واحد من السلف ، منهم أسباط ، عن السدي أنه قال في قوله:( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) قال:غضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوما من الأيام ، فقام خطيبا فقال:"سلوني ، فإنكم لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به ". فقام إليه رجل من قريش ، من بني سهم ، يقال له:عبد الله بن حذافة ، وكان يطعن فيه ، فقال:يا رسول الله ، من أبي؟ فقال:"أبوك فلان "، فدعاه لأبيه ، فقام إليه عمر بن الخطاب فقبل رجله ، وقال:يا رسول الله ، رضينا بالله ربا ، وبك نبيا ، وبالإسلام دينا ، وبالقرآن إماما ، فاعف عنا عفا الله عنك ، فلم يزل به حتى رضي ، فيومئذ قال:"الولد للفراش وللعاهر الحجر ".
ثم قال البخاري:حدثنا الفضل بن سهل ، حدثنا أبو النضر ، حدثنا أبو خيثمة ، حدثنا أبو الجويرية ، عن ابن عباس قال:كان قوم يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استهزاء ، فيقول الرجل:من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته:أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية:( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) حتى فرغ من الآية كلها . تفرد به البخاري .
وقال الإمام أحمد:حدثنا منصور بن وردان الأسدي ، حدثنا علي بن عبد الأعلى ، عن أبيه ، عن أبي البختري - وهو سعيد بن فيروز - عن علي قال:لما نزلت هذه الآية:( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) [ آل عمران:97] قالوا:يا رسول الله ، كل عام؟ فسكت . فقالوا:أفي كل عام؟ فسكت ، قال:ثم قالوا:أفي كل عام؟ فقال:"لا ولو قلت:نعم لوجبت "، فأنزل الله:( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) إلى آخر الآية .
وكذا رواه الترمذي وابن ماجه ، من طريق منصور بن وردان ، به وقال الترمذي:غريب من هذا الوجه ، وسمعت البخاري يقول:أبو البختري لم يدرك عليا .
وقال ابن جرير:حدثنا أبو كريب ، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن إبراهيم بن مسلم الهجري ، عن أبي عياض ، عن أبي هريرة قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"إن الله كتب عليكم الحج "فقال رجل:أفي كل عام يا رسول الله؟ فأعرض عنه ، حتى عاد مرتين أو ثلاثا ، فقال:"من السائل؟ "فقال:فلان . فقال:"والذي نفسي بيده ، لو قلت:نعم لوجبت ، ولو وجبت عليكم ما أطقتموه ، ولو تركتموه لكفرتم "، فأنزل الله ، عز وجل:( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) حتى ختم الآية .
ثم رواه ابن جرير من طريق الحسين بن واقد ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة - وقال:فقام محصن الأسدي - وفي رواية من هذه الطريق:عكاشة بن محصن - وهو أشبه .
وإبراهيم بن مسلم الهجري ضعيف .
وقال ابن جرير أيضا:حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري قال:حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن أبي الغمر ، حدثنا أبو مطيع معاوية بن يحيى ، عن صفوان بن عمرو ، حدثني سليم بن عامر قال:سمعت أبا أمامة الباهلي يقول:قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس فقال:"كتب عليكم الحج ". فقام رجل من الأعراب فقال:أفي كل عام؟ قال:فغلق كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأسكت واستغضب ، ومكث طويلا ثم تكلم فقال:"من السائل؟ "فقال الأعرابي:أنا ذا ، فقال:"ويحك ، ماذا يؤمنك أن أقول:نعم ، والله لو قلت:نعم لوجبت ، ولو وجبت لكفرتم ، ألا إنه إنما أهلك الذين من قبلكم أئمة الحرج ، والله لو أني أحللت لكم جميع ما في الأرض ، وحرمت عليكم منها موضع خف ، لوقعتم فيه "قال:فأنزل الله عند ذلك:( يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ) إلى آخر الآية . في إسناده ضعف .
وظاهر الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته ، فالأولى الإعراض عنها وتركها . وما أحسن الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال:
حدثنا حجاج قال:سمعت إسرائيل بن يونس ، عن الوليد بن أبي هشام مولى الهمداني ، عن زيد بن زائد ، عن عبد الله بن مسعود قال:قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه:"لا يبلغني أحد عن أحد شيئا ; فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر "الحديث .
وقد رواه أبو داود والترمذي ، من حديث إسرائيل - قال أبو داود:عن الوليد - وقال الترمذي:عن إسرائيل - عن السدي ، عن الوليد بن أبي هاشم ، به . ثم قال الترمذي:غريب من هذا الوجه .
وقوله:( وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم ) أي:وإن تسألوا عن هذه الأشياء التي نهيتم عن السؤال عنها حين ينزل الوحي على الرسول تبين لكم ، وذلك [ على الله] يسير .
ثم قال ( عفا الله عنها ) أي:عما كان منكم قبل ذلك ( والله غفور حليم )
وقيل:) وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن تبد لكم ) أي:لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها ، فلعله قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق وقد ورد في الحديث:"أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته "ولكن إذا نزل القرآن بها مجملة فسألتم عن بيانها حينئذ ، تبينت لكم لاحتياجكم إليها .
( عفا الله عنها ) أي:ما لم يذكره في كتابه فهو مما عفا عنه ، فاسكتوا أنتم عنها كما سكت عنها . وفي الصحيح ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:"ذروني ما تركتم ; فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ".
وفي الحديث الصحيح أيضا:"إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدودا فلا تعتدوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها ".