يقول تعالى مبينا لعدة الآيسة - وهي التي قد انقطع عنها الحيض لكبرها -:أنها ثلاثة أشهر ، عوضا عن الثلاثة قروء في حق من تحيض ، كما دلت على ذلك آية "البقرة "وكذا الصغار اللائي لم يبلغن سن الحيض أن عدتهن كعدة الآيسة ثلاثة أشهر ; ولهذا قال:( واللائي لم يحضن )
وقوله:( إن ارتبتم ) فيه قولان:
أحدهما - وهو قول طائفة من السلف كمجاهد ، والزهري ، وابن زيد -:أي إن رأين دما وشككتم في كونه حيضا ، أو استحاضة ، وارتبتم فيه .
والقول الثاني:إن ارتبتم في حكم عدتهن ، ولم تعرفوه فهو ثلاث أشهر . وهذا مروي ، عن سعيد بن جبير . وهو اختيار ابن جرير وهو أظهر في المعنى ، واحتج عليه بما رواه عن أبي كريب ، وأبي السائب قالا:حدثنا ابن إدريس ، أخبرنا مطرف ، عن عمرو بن سالم قال:قال أبي بن كعب:يا رسول الله ، إن عددا من عدد النساء لم تذكر في الكتاب:الصغار ، والكبار ، وأولات الأحمال ، قال:فأنزل الله عز وجل:( واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن )
ورواه ابن أبي حاتم بأبسط من هذا السياق فقال:حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، أخبرنا جرير ، عن مطرف ، عن عمر بن سالم ، عن أبي بن كعب ، قال:قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -:إن ناسا من أهل المدينة لما أنزلت هذه الآية التي في "البقرة "في عدة النساء قالوا:لقد بقي من عدة النساء عدد لم يذكرن في القرآن:الصغار ، والكبار اللائي قد انقطع عنهن الحيض ، وذوات الحمل . قال:فأنزلت التي في النساء القصرى:( واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن )
وقوله:( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) يقول تعالى:ومن كانت حاملا فعدتها بوضعه ، ولو كان بعد الطلاق أو الموت بفواق ناقة في قول جمهور العلماء من السلف والخلف ، كما هو نص هذه الآية الكريمة ، وكما وردت به السنة النبوية . وقد روي عن علي ، وابن عباس رضي الله عنهم أنهما ذهبا في المتوفى عنها زوجها أنها تعتد بأبعد الأجلين من الوضع أو الأشهر ، عملا بهذه الآية الكريمة ، والتي في سورة "البقرة ". وقد قال البخاري:
حدثنا سعد بن حفص ، حدثنا شيبان ، عن يحيى ، قال:أخبرني أبو سلمة قال:جاء رجل إلى ابن عباس ، - وأبو هريرة جالس - فقال:أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة . فقال:ابن عباس آخر الأجلين . قلت أنا:( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) قال أبو هريرة:أنا مع ابن أخي - يعني أبا سلمة - فأرسل ابن عباس غلامه كريبا إلى أم سلمة يسألها ، فقالت:قتل زوج سبيعة الأسلمية وهي حبلى ، فوضعت بعد موته بأربعين ليلة ، فخطبت ، فأنكحها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أبو السنابل فيمن خطبها
هكذا أورد البخاري هذا الحديث ها هنا مختصرا . وقد رواه هو ، ومسلم ، وأصحاب الكتب مطولا من وجوه أخر ، وقال الإمام أحمد:
حدثنا حماد بن أسامة ، أخبرنا هشام ، عن أبيه ، عن المسور بن مخرمة ; أن سبيعة الأسلمية توفي عنها زوجها وهي حامل ، فلم تمكث إلا ليالي حتى وضعت ، فلما تعلت من نفاسها خطبت ، فاستأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في النكاح ، فأذن لها أن تنكح فنكحت .
ورواه البخاري في صحيحه ، ومسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه من طرق عنها كما قال مسلم بن الحجاج:
حدثني أبو الطاهر ، أخبرنا ابن وهب ، حدثني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة:أن أباه كتب إلى عمر بن عبد الله بن الأرقم الزهري يأمره أن يدخل على سبيعة بنت الحارث الأسلمية فيسألها عن حديثها ، وعما قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين استفتته . فكتب عمر بن عبد الله يخبره أن سبيعة أخبرته أنها كانت تحت سعد بن خولة - وكان ممن شهد بدرا - فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل ، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته ، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب ، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك فقال لها:مالي أراك متجملة ؟ لعلك ترجين النكاح ، إنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر . قالت سبيعة:فلما قال لي ذلك جمعت علي ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألته عن ذلك ، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي ، وأمرني بالتزويج إن بدا لي .
هذا لفظ مسلم . ورواه البخاري مختصرا ، ثم قال البخاري بعد ذلك ، أي:بعد رواية الحديث الأول عند هذه الآية:
وقال سليمان بن حرب ، وأبو النعمان:حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن محمد - هو ابن سيرين - قال:كنت في حلقة فيها عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله ، وكان أصحابه يعظمونه ، فذكر آخر الأجلين ، فحدثت بحديث سبيعة بنت الحارث ، عن عبد الله بن عتبة قال:فضمزلي بعض أصحابه ، وقال محمد:ففطنت له فقلت:له إني لجريء أن أكذب على عبد الله وهو في ناحية الكوفة . قال:فاستحيا وقال:لكن عمه لم يقل ذلك . فلقيت أبا عطية مالك بن عامر فسألته ، فذهب يحدثني بحديث سبيعة فقلت:هل سمعت عن عبد الله شيئا ؟ فقال:كنا عند عبد الله ، فقال:أتجعلون عليها التغليظ ، ولا تجعلون عليها الرخصة ؟ نزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى:( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن )
ورواه ابن جرير من طريق سفيان بن عيينة وإسماعيل بن علية ، عن أيوب به مختصرا ، ورواه النسائي في التفسير عن محمد بن عبد الأعلى ، عن خالد بن الحارث ، عن ابن عون ، عن محمد بن سيرين فذكره
وقال ابن جرير:حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري ، حدثنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثني ابن شبرمة الكوفي ، عن إبراهيم ، عن علقمة بن قيس أن عبد الله بن مسعود ، قال:من شاء لاعنته ، ما نزلت:( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) إلا بعد آية المتوفى عنها زوجها . قال:وإذا وضعت المتوفى عنها زوجها فقد حلت . يريد بآية المتوفى عنها زوجها ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ) [ البقرة:234]
وقد رواه النسائي من حديث سعيد بن أبي مريم به ، ثم قال ابن جرير:
حدثنا أحمد بن منيع ، حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، قال:ذكر عند ابن مسعود آخر الأجلين ، فقال:من شاء قاسمته بالله إن هذه الآية التي في النساء القصرى نزلت بعد الأربعة الأشهر والعشر ، ثم قال:أجل الحامل أن تضع ما في بطنها .
وقال ابن أبي حاتم:حدثنا أحمد بن سنان الواسطي ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، قال:بلغ ابن مسعود أن عليا رضي الله عنه ، يقول:آخر الأجلين . فقال:من شاء لاعنته ، إن التي في النساء القصرى نزلت بعد البقرة:( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن )
ورواه أبو داود ، وابن ماجه من حديث أبي معاوية ، عن الأعمش
وقال عبد الله بن الإمام أحمد:حدثني محمد بن أبي بكر المقدمي ، أخبرنا عبد الوهاب الثقفي ، حدثنا المثنى ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو ، عن أبي بن كعب قال:قلت للنبي - صلى الله عليه وسلم -:( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) المطلقة ثلاثا أو المتوفى عنها ؟ فقال:"هي المطلقة ثلاثا والمتوفى عنها "
هذا حديث غريب جدا ، بل منكر ; لأن في إسناده المثنى بن الصباح وهو متروك الحديث بمرة ، ولكن رواه ابن أبي حاتم بسند آخر ، فقال:
حدثنا محمد بن داود السمناني ، حدثنا عمرو بن خالد - يعني:الحراني - حدثنا ابن لهيعة ، عن عمرو بن شعيب ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي بن كعب أنه لما نزلت هذه الآية قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -:لا أدري أمشتركة أم مبهمة ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"أية آية ؟ ". قال:( أجلهن أن يضعن حملهن ) المتوفى عنها والمطلقة ؟ قال:"نعم ".
وكذا رواه ابن جرير ، عن أبي كريب ، عن موسى بن داود ، عن ابن لهيعة به . ثم رواه عن أبي كريب أيضا ، عن مالك بن إسماعيل ، عن ابن عيينة ، عن عبد الكريم بن أبي المخارق أنه حدث عن أبي بن كعب ، قال:سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن:( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) قال:"أجل كل حامل أن تضع ما في بطنها "
عبد الكريم هذا ضعيف ، ولم يدرك أبيا .
وقوله:( ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا ) أي:يسهل له أمره ، وييسره عليه ، ويجعل له فرجا قريبا ومخرجا عاجلا .