القول في تأويل قوله تعالى:وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ
قال أبو جعفر:يقول تعالى ذكره:والذين عملوا السيئات في الدنيا، فعصوا الله فيها، وكفروا به وبرسوله (22)، ( جزاء سيئة )، من عمله السيئ الذي عمله في الدنيا، ( بمثلها )، من عقاب الله في الآخرة، (وترهقهم ذلة) ، يقول:وتغشاهم ذلة وهوان، بعقاب الله إياهم (23)
، ( ما لهم من الله من عاصم) ، يقول:ما لهم من الله من مانع يمنعهم ، إذا عاقبهم ، يحول بينه وبينهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا قوله:"وترهقهم ذلة "قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17646- حدثني المثنى قال ، حدثنا عبد الله بن صالح قال ، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:(وترهقهم ذلة) ، قال:تغشاهم ذلة وشدّة.
* * *
واختلف أهل العربية في الرافع ل "الجزاء ".
فقال بعض نحويي الكوفة:رُفع بإضمار "لهم "، كأنه قيل:ولهم جزاء السَّيئة بمثلها، كما قال:فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، [سورة البقرة:196] ، والمعنى:فعليه صيام ثلاثة أيام، قال:وإن شئت رفعت الجزاءَ بالباء في قوله:( جزاء سيئة بمثلها ) . (24)
* * *
وقال بعض نحويي البصرة:"الجزاء "مرفوع بالابتداء، وخبره (بمثلها) . قال:ومعنى الكلام:جزاء سيئة مثلها، وزيدت "الباء "، كما زيدت في قوله:"بحسبك قول السُّوء ".
وقد أنكر ذلك من قوله بعضُهم ، فقال:يجوز أن تكون "الباء "في "حسب "[ زائدة (25)]
لأن التأويل:إن قلت السوء فهو حسبك،فلما لم تدخل في الخبر، (26) أدخلت في "حسب "، "بحسبك أن تقوم ":إن قمت فهو حسبك. (27) فإن مُدح ما بعد "حسب "أدخلت "الباء "، فيما بعدها ، كقولك:"حسبك بزيد "، ولا يجوز "بحسبك زيد "، لأن زيدًا الممدوح ، فليس بتأويل خبَرٍ . (28)
* * *
قال أبو جعفر:وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ، أن يكون "الجزاء "مرفوعًا بإضمارٍ، بمعنى:فلهم جزاء سيئة بمثلها، لأن الله قال في الآية التي قبلها:لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ، فوصف ما أعدَّ لأوليائه، ثم عقب ذلك بالخبر عما أعدّ الله لأعدائه، فأشبهُ بالكلام أن يقال:وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة، وإذا وُجِّه ذلك إلى هذا المعنى ، كانت الباء صلة للجزاء.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى:كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
قال أبو جعفر:يقول تعالى ذكره:كأنما ألبست وجوه هؤلاء الذين كسبوا السيئات (29)
، ( قِطَعًا من الليل)، وهي جمع "قطعة ".
* * *
وكان قتادة يقول في تأويل ذلك ما:-
17647- حدثنا به محمد بن عبد الأعلى قال ، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر ، عن قتادة:(كأنما أغشيت وجوههم قطعًا من الليل مظلمًا) ، قال:ظلمة من الليل.
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله تعالى:(قطعًا) فقرأته عامة قراء الأمصار:(قِطَعًا) بفتح الطاء ، على معنى جمع "قطعة "، وعلى معنى أنَّ تأويل ذلك:كأنما أُغشِيَت وَجْه كل إنسان منهم قطعةٌ من سواد الليل، ثم جمع ذلك فقيل:كأنما أغشيت وجوههم قطعا من سواد، إذ جُمِع "الوجه ".
* * *
وقرأه بعض متأخري القراء:"قِطْعًا "بسكون الطاء، بمعنى:كأنما أغشيت وجوههم سوادًا من الليل، وبقيةً من الليل، ساعةً منه، كما قال:فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ، [سورة هود:81 /سورة الحجر:65] ، أي:ببقية قد بقيت منه.
ويعتلُّ لتصحيح قراءته كذلك، أنه في صحف أبيّ:(وَيَغْشَى وُجُوهَهُمْ قِطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمٌ). (30)
* * *
قال أبو جعفر:والقراءة التي لا يجوز خلافها عندي ، قراءةُ من قرأ ذلك بفتح الطاء، لإجماع الحجة من قراء الأمصار على تصويبها ، وشذوذ ما عداها. وحسبُ الأخرى دلالةً على فسادها، خروج قارئها عما عليه قراء أهل أمصار الإسلام. (31)
* * *
فإن قال لنا قائل:فإن كان الصواب في قراءة ذلك ما قلت، فما وجه تذكير "المظلم "وتوحيده، وهو من نعت "القطع "، و "القطع "، جمع لمؤنث؟
قيل:في تذكير ذلك وجهان:(32)
أحدهما:أن يكون قَطْعًا من "الليل "(33) . وإن يكون من نعت "الليل "، فلما كان نكرةً ، و "الليل "معرفةً ، نصب على القَطْع،
فيكون معنى الكلام حينئذ:كأنما أغشيت وجوههم قطعًا من الليل المظلم،ثم حذفت الألف واللام من "المظلم "، فلما صار نكرة وهو من نعت "الليل "، نصب على القطع. وتسمي أهل البصرة ما كان كذلك "حالا "، والكوفيون "قطعًا ".
والوجه الآخر:على نحو قول الشاعر:(34)
* لَوْ أَنَّ مِدْحَةَ حَيٍّ مُنْشِرٌ أَحَدًا * (35)
والوجه الأوّل أحسن وجهيه.
وقوله:(أولئك أصحاب النار) ، يقول:هؤلاء الذين وصفت لك صفتهم أهلُ النار الذين هم أهلها (36)
، (هم فيها خالدون) ، يقول:هم فيها ماكثون. (37)
------------------------
الهوامش:
(22) انظر تفسير "كسب "فيما سلف من فهارس اللغة ( كسب ) ، ( سوأ ) .
(23) انظر تفسير "الرهق "فيما سلف قريبًا ص:72 .
،وتفسير "ذلة "فيما سلف ص:72 ، تعليق:3 ، والمراجع هناك .
(24) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1:461 ، وفي المطبوعة:"وجزاء سيئة بمثلها "بالواو ، وفي معاني القرآن للفراء "فجزاء "بالفاء ، ولا أجد في القرآن آية فيها مثل ذلك بالواو أو بالفاء ، وإنما عني هذه الآية بعينها .
(25) الزيادة بين القوسين لا بد منها حتى يستقيم الكلام .
(26) في المطبوعة والمخطوطة:"لم تدخل في الجزاء "، وهو خطأ لا ريبة فيه .
(27) أخشى أن يكون سقط من الكلام شيء .
(28) في المطبوعة والمخطوطة في هذا الموضع أيضًا:"فليس بتأويل جزاء "، وهو فساد لا شك فيه .
(29) انظر تفسير "الإغشاء "فيما سلف 12:483 ، تعليق:2 ، والمراجع هناك .
(30) انظر معاني القرآن للفراء 1:462 .
(31) في المطبوعة:"أهل الأمصار والإسلام "، وهو عبث سخيف .
(32) في المطبوعة:"في تذكيره "؛ بالهاء مضافة ، وهو عبث أيضًا .
(33) "القطع "( بفتح فسكون ) ، الحال ، كما سلف مرارًا شرحه وبيانه ، وانظر ما سلف 11:455 / 12:477 ، وفهارس المصطلحات . وقد بين الطبري في هذا الموضع بأحسن البيان عن معنى "القطع "، وقد سلف كلامنا فيه مرارًا .
(34) هو أبو ذؤيب .
(35) ديوانه:113 ، في آخر قصيدة له ، ورواية الديوان:
لَـوْ كـان مِدْحَـةَ حَـيٍّ مُنْشِـرٌ أَحَدًا
أَحْــيَى أُبُــوَّتَكِ الشُّــمَّ الأَمَـادِيحُ
وهذا لا شاهد فيه ، ويروى:
* لَـوْ كـان مِدْحَةَ حَيٍّ مُنْشِرٌ أَحَدًا *
وهذا شاهد .
(36) انظر تفسير "أصحاب النار "فيما سلف من فهارس اللغة ( صحب ) .
(37) انظر تفسير "الخلود "، فيما سلف من فهارس اللغة ( خلد ) .